Thursday 6 March 2014

الفصل الثاني/ الفصل الرابع والعشرين


     لقي تسعة من رجال الإنقاذ حتفهم.. كانوا يحاولون إغاثة العشرات من عمال منجم «رباح» الذي انهار جزء منه، في منطقة القصير.. حسب ما أفاد شاهد عيان أكد أن الحصيلة بلغت مائة قتيل.
وأعلن أحد عمال المنجم - كان حاضرا عند وقوع الحادث - طالبا عدم كشف هويته:
«فُقد تسعة من رجال الإنقاذ عندما انهارت الأرض من حولهم..
إن رائحة الموت تنبعث من منجم الذهب، وحصيلة أعدها موظفون في المنجم تفيد بوجود أكثر من مائة شخص داخله عند انهياره.
وتابع: أمس الخميس عُثر على ثماني جثث وما زال البحث عن الجثث الأخرى جاريا».

    كان «حسام» يشاهد الأخبار على شاشة العرض الحديثة في الجانب الأيسر - المخصص للرجال - من القطار في صمت؛ حيث لا يجوز له كرجل أن يجلس في الجانب الأيمن أو الوجود في الدرجة الأولى، وهذا شأن جميع وسائل النقل البري والبحري والجوي..
كل يوم يُنهي عمله ليقطع تذكرة القطار عائدا إلى منزله، يشعر بالمهانة الشديدة وهو يقف في الطابور ويتذكر أنه غير مسموح له بالجلوس في الدرجة الأولى وأن المقاعد المتاحة له فقط في الجانب الأيسر..
لقد سئم حياته تماما..

  هو يمتلك قدرا كبيرا جدا من الاعتزاز والكرامة، ولهذا هو لم يستطِع استيعاب كل ما يدور من حوله ولا كيف بدأ هذا كله.. كان هذا أيضا أحد أسباب صمته الطويل جدا الذي لا ينقطع.

  لا تستطيع أن تجزم على وجه الدقة إذا كان قد لاحظ نظرات «حنان» التي دائما ما تجلس في الجانب الأيمن على مقعد يسمح لها باختلاس النظرات إليه أم أنه يتجاهلها.. هي نفسها لا تعرف، لكنها تعرف فقط أنها تحبه بعمق.. تحبه كما لم تحب أحدا من قبل.. تحب صمته.. تحب حضوره الطاغي وشخصيته الواضحة القوية.. تحب اعتزازه الشديد بنفسه.. تحب شعره الأسود وأنفه الدقيق وشفتيه الحازمتين.. دائما تنظر إلى عينيه السوداوين الواسعتين وتتمنى لو ألقت نفسها بين ذراعيه لتعلن استسلامها وخضوعها وعشقها غير المشروط.. لم تشعر «حنان» بمعنى كلمة رجل إلا أمام «حسام» وكأن العالم كله تحول إلى عالم أنثوي وبه رجل واحد فقط..
«حسام».
كانت تختلس النظرات إليه ولا تستطيع قراءة تعبيرات وجهه الجامدة غير المعبرة.. تتمنى لو تعرف مكنونات صدره.. ماذا يحب.. وماذا يكره.. ما الذي يضحكه.. وما الذي يحزنه.. ما أكلته المفضلة.. تتمنى لو تعرف هذا كله وأكثر حتى تُفني عمرها في خدمته وإسعاده.. كلما غرقت في أفكارها تجاهه تكاد تفقد السيطرة على نفسها وتذهب إليه لتخبره كم هي عاشقة.. وفي هذه المرة بالتحديد فقدت السيطرة تماما على مشاعرها واتخذت قرارها - دون النظر إلى العواقب - واندفعت تجاهه و...
فجأة تسمرت مكانها.. كانت هناك سيدة في عقدها الرابع تتحدث إلى «حسام» في استعلاء وخشونة:
- يا رجل.. إني آمرك بترك مقعدك لي.
نظر لها «حسام» في صمت ولم يحرك ساكنا.. إنه يعلم القوانين جيدا.. الرجال في الدرجات الدنيا وعلى الجانب الأيسر، وفي حالة الازدحام الشديد، عندما تكون جميع المقاعد شاغرة في الجانب الأيمن، لا يجوز أن تقف امرأة، أيا ما كان الأمر ورجل يجلس، ويجب أن يخلي لها الرجل فورا مقعده.
إن «حسام» إنسان شديد اللباقة، وهو في الأحوال العادية يقوم بهذا على سبيل المروءة، لكن لم تعجبه نبرة المرأة الاستعلائية، ولهذا ظل في مقعده وتجاهلها تماما..
كان يعلم العواقب، لكنه أصر على المضي في الطريق قدما.. وهذا ما أشعل غضب وحنق المرأة التي لم تلبث أن ضغطت زرا على مقعد «حسام».. وعلى الفور ظهرت حارستان قويتان تحملان السياط الإلكترونية ذاتها واللتان فهمتا بدورهما ما يحدث فاندفعتا على الفور وضربت إحداهما على ذراع «حسام» اليمنى بالسوط الذي أطلق أزيزا خافتا وتلوَّن بلون أزرق باهت وكأنه يفرغ شحنة ما في جسد «حسام» الذي سقط على أثرها مغشيا عليه في الحال. فأمسكت الحارسة بياقته وجذبته ليسقط من على الكرسي ثم أشارت إلى المرأة أن تجلس. ألقت المرأة بدورها على «حسام» نظرة استحقار ثم تعمدت أن تضغط على جسده بقدميها وهي تجلس في مكانه.
وفي أقل من دقيقة ظهر رجلان يدفعان ما يشبه عربة صغيرة وألقيا جسد «حسام» الفاقد للوعي بداخلها..
عادت «حنان» إلى مقعدها وقلبها يستشعر حزنا عميقا.
كانت تعلم ما الذي سوف يحدث لـ«حسام» بعد ذلك وكيف أنها قد لا تراه ثانية أبدا. «حسام» في طريقه الآن، وللأبد، إلى سجن الشلالات نتيجة تمرده على القوانين الوضعية للملكة.. كانت حزينة ومنبهرة به تماما.. كيف يمتلك تلك الجرأة والقوة والاعتزاز وهو مجرد رجل؟! هو حتى ليس يعسوبا من رجال الملكة.. لماذا هو مختلف عن كل الرجال الذين قابلتهم في حياتها؟ فجميعهم يعلمون جيدا الفرق بين المرأة والرجل ويخشون العقوبة الدائمة داخل سجن الشلالات..
منذ نشأتها، تربَّت على أن الرجل في خدمة المرأة، هذا زرع في نفسها شعورا بأن الرجال دورهم الخدمة والأعمال الشاقة.
إنهم كآلات بلا مشاعر..
لم تشعر بحاجتها كامرأة إلى أي رجل كان.. لكن!
«حسام» رجل مختلف.
بل هو حالة استثنائية اقتحمت حصونها فجأة وبلا مقدمات..
تجاوز خطوط الدفاع الأول والثاني والثالث ووصل إلى عقر قلبها..
واحتله احتلالا!!
رفع رايته وبنى مستعمراته دون أي مقاومة تُذكر منها..
واتخذ قلبها عاصمة جديدة له..
وأصبحت هي الأسيرة..
وعلى أرضها!
وكالعادة لم تستطِع أن توقف تدفق نهر أفكارها تجاه «حسام» فأراحت رأسها على ظهر مقعدها وغرقت في نوم يقظة عميق وفي مخيلتها شخص واحد.

* * *

اختارت الملكة «الصحراء الشرقية» عاصمة لقطاع المملكة كلها (مصر والسودان والنوبة)، التي كان لا بد لها أن تتحد نتيجة الاستقطاب الحاد بين دول حوض النيل، هذا حين أصبحت المياه مشكلة حقيقية.
تبلغ مساحتها تقريبا 22% من مساحة مصر الكلية، وهي تمتد بين وادي النيل في الغرب والبحر الأحمر وقناة السويس في الشرق. ويفصل وادي النيل ودلتاه بين صحراء مصر الغربية والشرقية، التي هي أكثر ارتفاعا في المنسوب عن صحراء مصر الغربية؛ حيث يصل ارتفاع بعض قممها إلى 1500 متر فوق منسوب سطح البحر الأحمر، هذا بالإضافة إلى الكثير من الوديان التي تكوَّنت نتيجة سقوط الأمطار في عصر عُرف فيما مضى بالعصر المطير، ثم جفت بانتهائه.
كانت الملكة «أسيلا» تظن أن طبيعة الصحراء الشرقية تجعل منها قاعدة استراتيجية لقيادة البلاد. وكان من الطبيعي - مع تطور الزمن - البعد عن محيط الدلتا، التي كان يرتكز فيها حوالي 95% من سكان مصر حتى العقد الثاني من الألفية الثانية. وهو توزيع عجيب جدا - إذا أردت رأيي - حيث يرتكز 95% من السكان على مساحة لا تتعدى 5% من مساحة مصر، الأمر الذي أوجب النزوح إلى الصحراء الشرقية والغربية وسيناء حتى يتناسب توزيع السكان مع مساحة مصر والمملكة بشكل عام توزيعا عادلا.
وضعت الملكة «أسيلا» نفسها على رأس المملكة، وعيَّنت ابنتها «سارة» أميرة مصر و«تاليا» أميرة السودان و«سالي» أميرة النوبة واتخذت «عبير» - كبرى بناتها - وزيرة لها.
طبقا لأوامرها والقوانين الخاصة للمملكة، لا يجوز للرجال حمل بطاقات هوية؛ فهي مخصصة للإناث، وإنما نصت القوانين على أن تُستخرج لهم تصاريح تحدد أماكن وجودهم، وهي عملية مرهقة لكبر حجم هذه التصاريح، إلى جانب أنها تجعل الرجال حركتهم مقيدة. بينما اليعاسيب لديهم قوانين خاصة هي التي تحكمهم.
التقسيم الجنسي الجديد داخل المملكة:
 إناث ويعاسيب وذكور.
يوشم اليعاسيب بوشم خاص (باركود) على العضد الأيسر، تتم قراءة شفرته بجهاز خاص، وهي عبارة عن: اسمه، المستعمرة التابع لها، ورقمه الكودي. بينما الذكر يتم وشمه باسمه وسنة الميلاد على العضد الأيمن.
يتم اختيار أقوى الرجال وأشدهم وسامة وذكاءً إلى جانب توافر اللياقة البدنية العالية وتُبنى لهم مستعمرات يتم فيها العناية الخاصة بهم.
عدد مستعمرات المملكة ستون مستعمرة تُبنى كلها في أشكال سداسية غريبة.. كل مستعمرة لها كود مستقل من رقم 1 إلى رقم 60. في كل مستعمرة 9999 من اليعاسيب، وجميع الأكواد تبدأ بحرفي الألف والكاف لتصبح على الصورة الآتية:
«أ. ك - 0001 - 1»، وهو كود قائد المستعمرة رقم «1» التي يطلق عليها المستعمرة الأم والتابعة للملكة «أسيلا» مباشرة ويقال إن بها أفضل العناصر على الإطلاق.
لا أحد يعلم على وجه الدقة لماذا حرفا الألف والكاف تحديدا!
استراح البعض لتفسير أن الكاف هو اختصار «كود» والألف أول حرف من اسم الملكة «أسيلا».
الـ«0000» هي أرقام اليعاسيب داخل المستعمرة حسب زمن الدخول، من واحد إلى 9999، وهي سعة المستعمرة من اليعاسيب.
والرقم الأخير، من واحد إلى ستين، هو رقم المستعمرة من المستعمرات الستين الموزعة في أنحاء المملكة كالآتي: ثلاثون مستعمرة في مصر، خمس وعشرون مستعمرة في السودان، خمس مستعمرات في النوبة.
داخل المستعمرات مدينة كاملة، أو إذا شئنا الدقة عالم كامل مستقل بذاته.. توجد جامعات ومختبرات ومعامل ونوادٍ لممارسة الرياضة، ليتم اكتمال التكوين العقلي والبدني لليعسوب. يتم اختيار أكفأ التلاميذ، وهم في عمر السادسة عشرة، من حيث الذكاء والقوة البدنية والوسامة وأي مهارة مميزة أو موهبة، ليكملوا ما بقي من حياتهم داخل المستعمرة ويكرسوا حياتهم للقطاع الملكي.. لكن قبل هذا هناك مرحلة فاصلة ونقطة تحول..
الوحدة «ألفا».
الوحدة «ألفا» هي الميلاد الحقيقي لليعسوب واللحظة الفاصلة التي يتحول فيها من ذكر عادي إلى يعسوب.. يتم اقتياد الذكر إليها أول شيء بعد أن يقع الاختيار عليه في سن السادسة عشرة.
لا يوجد يعسوب واحد داخل المستعمرة لم يمر بالوحدة «ألفا» أولا.. الغريب أنهم جميعا لا يتذكرون سوى اسمها، لكن أي تفاصيل عنها أو ما تم بداخلها فهي مبهمة تماما.
تظل هذه المجموعة من اليعاسيب الرجال هي الأفضل - على الإطلاق - في كل جيل من حيث «القوة والذكاء والوسامة». من النادر أن تجتمع العناصر الثلاثة السابقة بهذه الدرجة والدقة العاليتين في أي رجل آخر خارج حدود المستعمرات.
ففي الخارج قد تجد الذكي جدا ضعيف البنية، أو الوسيم العليل أو الغبي القوي، ولهذا تتخذ الملكة وسيدات المجتمع الراقي من هؤلاء اليعاسيب فقط الجيوش والحراس والأخلاء والأزواج.
عمر يعاسيب المستعمرات ينتهي في الأربعين، بعدها يحالون للتقاعد الإجباري ليقضوا بقية حياتهم في جزيرة خاصة، يقال إنها عبارة عن منتجع كبير.. دقة هذا الأمر مشكوك فيها؛ فلم يعد أحد من هناك أبدا ليحكي ما الذي يدور هناك. كل ما يحدث داخل المستعمرات محاط بسرية كاملة في أثناء خدمة اليعسوب وبعد إحالته للتقاعد.
يقولون إنه يتم عمل غسيل مخ كامل لليعسوب ليدين للولاء للملكة، لكن هذا أمر غير مؤكد أطلقه البعض ليفسر سر ولاء اليعاسيب الشديد للملكة، الأمر الذي أنكره البعض بحجة أن هؤلاء الرجال يحصلون على كل شيء، فلماذا لا يدينون لها بالولاء والطاعة؟! الأمر الذي يرد عليه أتباع الفريق الأول بأنهم فعلا يحصلون على كل شيء فيما عدا شيء واحد: الحرية، وهي أغلى وأثمن من كل شيء آخر في الوجود.
لكن في الحقيقة كلها تكهنات وأقاويل؛ حيث لا أحد يعرف قطعا ما الذي يحدث داخل هذه المستعمرات؛ نظرا لأنها محاطة بسياج محكم من السرية.. والغموض.

* * *

«سيف» شاب في الثلاثين من عمره.. كان دائما ما يشعر بداخل عقله أنه يدين بالولاء للملكة.. وفي لحظة..
اختفى هذا الولاء كله بغتة!
آخر - وكل - ما يذكره أنه كان في مهمة سرية على حدود أسوان والنوبة و...
وفقط.
ليجد نفسه بعدها واقفا على الطريق لا يدري أين هو..
ولا كيف وصل إلى هذه النقطة..
لا يريد العودة للمستعمرة الأم..
هذا كل ما يعرفه من داخل قلبه - يقينا - وكأن عقله تحرر فجأة.
هو الآن داخل عربة الترحيلات في طريقه إلى سجن الشلالات في منطقة «رأس بناس»، وعقله وفكره يأخذانه إلى ذكريات بعيدة.. جدا.
«سيف» وجد نفسه داخل المستعمرة الأم التابعة للملكة مباشرة، التي يوجد بها أفضل العناصر على الإطلاق، منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره.. كان قد أكمل تعليمه الأساسي بتفوق لفت الأنظار إليه، وحيث إنه من غير المسموح للرجال باستكمال تعليمهم إلى الدرجة الجامعية كان لا بد أن يواجه مصيرا من اثنين: إما أن يعمل عملا يدويا شاقا في المصانع والمناجم والبناء وإما أن يخدم في البيوت والفنادق.
بصفة عامة، أي نوع من الأعمال الدنيا، بما أن الوظائف والمناصب العليا وجامعات التعليم العالي ووظائف الدولة والعمل السياسي والدبلوماسي كانت حكرا على النساء أو اليعاسيب من الذكور فقط - طبقا للقانون.
لا يزال يذكر جيدا ذلك اليوم الذي جاءت فيه مديرة المدرسة يوم التخرج في التعليم الأساسي لتطلب منه هو وآخرين أن يجتمعوا في فناء المدرسة.. ما زال يذكر كيف أن الجميع كان قلقا والكثير من التجهيزات وأعمال النظافة وإعادة الدهان التي تمت لتبدو المدرسة في أبهى صورة؛ حيث علم أن وزيرة الملكة سوف تقوم بجولة لتختار من كل مدرسة يعسوبا..
اصطف الطلاب المميزون الذين انتقتهم مديرة المدرسة بعناية، وبالطبع وقف «سيف» بينهم.. طال الانتظار المرهق حوالي ساعتين، حتى ظهرت الوزيرة التي تحيط بها مجموعة لا بأس بها من الحارسات القويات، كلهن يحملن السياط الإلكترونية ما عدا حارسة واحدة تحمل سوطا مختلفا له لون أحمر قانٍ.
اضطرب قلب «سيف» حينما وقع بصره على الوزيرة.
كانت تمشي في خطوات واثقة متعجرفة، ملامحها قاسية، باردة، تلبس ثيابا مرصعة بالماس والذهب، تشبه ثياب قدماء المصريين.. بل هي نفسها ثياب قدماء المصريين.. كان «سيف» في إحدى مراحل دراسته قد وجد صورة للملكة «نفرتيتي» التي بدت له الوزيرة شديدة الشبه بها.. كانت لها عينان مخيفتان يكاد يجزم أن لهما لونا رماديا.. يحيط بهما كحل أسود شديد السواد.. شفتاها رفيعتان حازمتان تنظر للطلبة في احتقار شديد.. تحيط بالوزيرة هالة مخيفة تقترب من القدسية، ما أورد خاطرة سريعة على عقل وقلب «سيف»: «إذا كانت هذه هي الوزيرة، فكيف تبدو الملكة أسيلا؟!».
في اللحظة نفسها كانت الوزيرة تجوب وتقطع المسافات بين الطلاب.. تحدق فيهم طويلا.. تقف لتجذب هذا وتقلِّب في هذا وكأنها تختار سلعة.. كان الأمر يشبه في مجمله سوق النخاسة المهينة، حتى وقع بصرها على «سيف». وقفت أمامه طويلا تتفرَّسه بنظراتها.. تجوب بعينيها جميع أجزاء جسده في اقتحام.. تجذب وجهه بخشونة.. تضغط بيديها على كتفه.. تقترب منه لتشم رائحته.. ظلت تتفحصه ما يقرب من عشر دقائق كاملة.. ثم ابتعدت عنه مسافة مترين وأخذت تتأمله من جديد..
مرة أخيرة!
ابتسمت ابتسامة قاسية سريعة ونظرت نظرةً ذات مغزى للحارسة التي تحمل السوط المختلف - الأحمر القاني بلون الدم - والتي اندفعت سريعا في اتجاه «سيف» وضربت به جسده الذي انتفض متوقعا ألما شديدا، لكنه وجد نفسه فجأة مكوَّما على الأرض، ملفوفا من أخمص قدميه حتى رقبته بحبل شديد الليونة والقوة خرج من السوط وظل يلتف حول جسده حتى وصل إلى قدميه، ما أفقده توازنه ليسقط ويرتطم كالحجر بقسوة بالأرض ثم سرت شحنة عنيفة كهربية في جسده أفقدته وعيه لساعات طويلة، وحينما أفاق كان عاري الصدر تماما وعيناه معصوبتان بحبال خشنة التفَّت حول عينيه وجبهته ومؤخرة رأسه في دائرة كاملة..
شعر ببرودة شديدة وسمع اسم الوحدة «ألفا» يتردد..
بعدها غاب عن وعيه تماما..
ثم استيقظ..
كانت البداية صادمة.. ومن لحظتها شعر أن ولاءه فقط للملكة.
ودون سبب واضح..
قطع أفكاره توقف سيارة الترحيلات عند سجن مستعمرة «شلالات الدم».
كانت أول مرة يطأ هذه المستعمرة بقدميه، لكنه سمع عنها كثيرا جدا.. كان يعلم قسوة هذا المكان جيدا.. هذا ببساطة أحد ابتكارات الملكة «أسيلا» التي تفرض بها سيطرتها وتجعل قوانينها نافذة.. جعلت عقوبة كسر قوانينها الوضعية التي تميز النساء كجنس أرقى عن الرجال: السجن في شلالات الدم، وهي عقوبة مختلفة عن القضايا الجنائية..
البقاء الأبدي في شلالات الدم.. عقوبة قاسية جدا.
من يذهب إلى هذا المكان يعتبر رجلا ذا شخصية متمردة.
في هذا السجن البشع يتعرض الرجل إلى أقسى أنواع العذاب والذل والمهانة..
طبيعة العقاب والإيذاء هنا نفسية وليست بدنية.
لا إيذاء جسديا على الإطلاق..
وأي محاولة للهرب عقوبتها واحدة: الإعدام.
هناك أمل واحد للخروج من هذا الجحيم.. هذا الأمل يتجدد كل خمس سنوات.
من ظن أنه كان على خطأ فعليه أن يذهب إلى غرفة «إعلان الخضوع»!
غرفة تجلس فيها الملكة على عرشها ويقف من أمامها السجين مذلولا..
منكسرا..
منسحقا..
يعبِّر بأقصى آيات الندم معتذرا عمَّا بدر منه ومعلنا خضوعه وولاءه التام للملكة.. هي لا تحتاج سوى أن تقتنع بأسفه.. عندها تعفو عنه.. وإن عاد لما كان عليه لن يعود إلى السجن بل إلى حبل المشنقة..
مباشرة.
وإن لم تقتنع فإنه يبقى خمس سنوات أخرى..
وهكذا..
كانت هذه هي الطريقة التي تحكم بها الملكة عقول الرجال وتضمن عدم تمردهم.. في الحقيقة كانت فكرة قاسية، ولقد اكتسب هذا المكان شهرة مخيفة جعلته ينازع أشهر السجون العالمية على مر التاريخ.
ما إن وطئت قدما «سيف» الأرض حتى شعر بدهشة حقيقية.. فتحت قدميه مباشرة اصطبغت الأرض بلون الدم.. عرف على أثرها لماذا يطلق على هذا المكان اسم «شلالات الدم»..

فأمام عينيه كانت هناك طبقات رملية كثيفة تنحدر بميل للأسفل على شكل شبه منحرف قاعدته سجن على هيئة قلعة عظيمة. انحدار الطبقات الرملية يشبه تماما بركانا مقلوبا فوهته للأسفل. تلك الرمال - التي في انحدارها تشبه النهر - مكونة من خمس طبقات رملية تنساب ببطء شديد.. الميل الرملي كان عميقا بحق لمسافة تمتد لأكثر من 100 متر. وهذا اللون الأحمر ينحدر من جميع الجوانب وكأنه يصب حمما من الدماء على السجن.
شلالات الدم تكونت بسبب المادة الناتجة من مادة أكسيد الحديد الغنية بها التربة في هذه المنطقة، ما أعطاها هذا اللون الأحمر الذي يُعزى إلى أكسيد الحديد الناتج من جرَّاء تفاعلات أكسدة بين عناصر معينة موجودة في المياه الجوفية شديدة الملوحة بالمنطقة. وكانت هذه العناصر مخزنة ومعزولة في جيوب ينعدم فيها الهواء والضوء منذ سنين طويلة، حين كانت المياه أعلى من مستوياتها التي هي عليها حاليًّا..
هذه المعلومات كلها استرجعها «سيف» في ذهنه وهو يخطو أولى خطواته على شلالات الدم.
كانت الشمس قد أنهت لتوها رحلة غروبها.. فتلونت السماء بلون أحمر، ما جعل المشهد كابوسيا مقبضا..
الأرض والسماء بلون واحد..
أحمر.
الرياح باردة، لها صوت صفير عالٍ، محملة بذرات الرمال الحمراء المدببة والقاسية لتصطدم بالأجساد البشرية القليلة الواقفة على بعد حوالي 200 متر من مدخل السجن منتظرين - في ملل واضح - الإذن بالدخول.
سمع «سيف» عواء ذئاب مع بداية الليل واختفاء الشمس الكامل في الأفق البعيد، بينما تقف من حوله أربع حارسات يحملن السياط الإلكترونية ويُحِطنَ به من الجهات الأربع في تشكيل بدائي لكنه محكم....أطرافه الأربعة مغلولة بسلاسل قاسية تبدأ عند قدميه ويديه، وتنتهي عند يد إحدى الحارسات. و تتدلى من رقبته أغلال ثقيلة مرهقة تكاد الكلابشات التي في نهايتها حول رقبته تخنقه خنقا.. طول هذه السلسة حوالي ثلاثة أمتار،تتدلى حرة أمام عينيه ...
ابتسم «سيف» في سخرية وقال مشيرا بعينيه إلى نهاية السلسلة التي تحكم نفسها حول رقبته:
- أين الحارسة الخامسة؟
لم يكد يتم عبارته حتى ظهر كلب شرس قوقازي أسود قوي وزنه لا يقل عن 100 كيلوجرام.. ذلك النوع الذي يمتاز بطباعه الخشنة وصعوبة ترويضه نتيجة صراعاته الطويلة مع الذئاب..
لم يدرِ «سيف» من أين ظهر، لكنه كان يركض بقوة ويندفع في قسوة وشراسة باتجاهه، ما جعل أعصابه تتوتر وجسده يتحفز، مفرزا «أدرينالين» طازجا، ظنًّا منه أن هذا الكلب في طريقه ليهجم عليه. وقف الكلب عند قدميه مباشرة وأخذ في الدوران من حوله يتشممه في بطء ثم قام بفعل عجيب بحق..
التقط طرف السلسلة الخامسة المعلقة في رقبة «سيف» في فمه موليا له ظهره محركا ذيله في سعادة بدت لـ«سيف» وكأنه يشمت فيه، ولولا بُعد نهاية السلسلة بثلاثة أمتار كاملة عن قدم «سيف» لكان ركله ركلة قاسية بتلك المؤخرة التي فوقها ذيل يهتز.
كان المشهد مهينا بحق..
رجل مسلسل من أطرافه، ومن رقبته يقوده كلب!!
سمع «سيف» صوت أزيز يقترب منه أتبعه ظهور حشرة بحجم البعوضة تقترب منه حثيثا ثم استقرت على ملتقى رقبته بكتفه..
شعر «سيف» بأنها غرزت شيئا دقيقا حادا في رقبته فحاول لا إراديا أن يزيله فتذكر أنه مقيد اليدين، فقالت الحارسة من على يمينه:
- هذه الحشرة الإلكترونية يتم التحكم بها عن بُعد.. هل شعرت بهذه الوخزة؟ لقد أخذت عينة من الـDNA الخاص بك وأرسلته حالا إلى سيرفر السجن؛ حيث تم إدراجك في قاعدة البيانات..
ثم رفعت جهاز اتصال إلى فمها قائلة للطرف الآخر:
- المجموعة «ب» تقف في الدائرة الحمراء.. نحن في انتظار الأوامر.. متى نستطيع الدخول من البوابة 5؟
- سوف يصل الممر في ثلاث دقائق وعشر ثوانٍ.
وقفت المجموعة العجيبة المكونة من أربع سيدات ورجل وكلب وبعوضة داخل الدائرة الحمراء وسط الصحراء في مشهد غريب عجيب بانتظار مرور الدقائق الثلاث..
مرت الدقائق الثلاث في صمت مهيب لم يقطعه سوى صفير الرياح وعواء الذئاب، حتى شعر «سيف» وباقي المجموعة بتحرك ذرات الرمال من تحت أقدامهم ووجد قدمه تقف على سير يتحرك بسرعة معقولة نسبيا للأسفل باتجاه بوابة الدخول رقم خمسة. لم يفهم بالتحديد ما الذي يحدث من حوله ولماذا لم تتحرك المجموعة سيرا على الأقدام وما هذا السير الإلكتروني المتحرك..
ابتسمت الحارسة وقد خمَّنت ما يدور داخل عقل «سيف» ثم قالت وكأنها تستمتع بهز ثقة السجين:
- هذه الرمال الحمراء المحيطة بالسجن هي رمال متحركة.. وهذا السير الكهربائي مصنوع من مادة خاصة تجعله قابلا للطفو على هذه الرمال.. باختصار: لا يستطيع أحد الهروب من تلك القلعة الحصينة.
لم يُعِرها «سيف» أدنى اهتمام..
كانت الفكرة الوحيدة المسيطرة على عقله هي كيفية الهروب من هذا الجحيم على الرغم من أن الممارسات الوحشية والقمعية في هذا السجن لم تبدأ بعدُ..
هو يقترب من بوابة السجن بأغلال وبعوضة إلكترونية مقززة تصحبه وكلب شرس يقوده. لا يدري بعدُ ما الذي ينتظره بالداخل.. لكن الأحداث التي مر بها حتى هذه اللحظة كفيلة بجعله يؤمن أن الأيام المقبلة ستكون كريهة إن لم تكن أسوأ أيامه على الإطلاق.
بوصول أفكاره إلى هذا المنحنى، شعر بغثيان شديد وتقلصت أمعاؤه، ثم قام بحركة لا إرادية أفرغ معها محتويات معدته عن آخرها..
ما جعله يستشعر ألما بالغا في معدته..
ازداد كرهه للملكة وقناعاته بأنها شيطان يكره الرجال..
من المستحيل أن تكون هذه امرأة طبيعية.
بُني السجن - أو القلعة - في شبه جزيرة «رأس بناس» التي تحدها المياه من جهات ثلاث.. وهذا هو سر بناء تلك القلعة الحصينة في ذلك المكان؛ حيث يشكل البحر الأحمر عنصر حماية طبيعيا. وتبقى جهة واحدة من اليابس تستطيع بسهولة تركيز الحراسة عليها. المنطقة البحرية المحيطة بالسجن مليئة أيضا بأسماك القرش المفترسة.
يمتد بناء السجن على مسافة 180 مترا طولا و60 مترا عرضا. سُمك الأسمنت المسلح في الجدران والحوائط الفاصلة يقارب نصف المتر. القضبان الفولاذية المضادة للقطع تغطي جوانب جميع النوافذ والفتحات. الأبواب جميعها مصفحة تحول بين كل مدخل ومخرج للسجن.
ينقسم السجن إلى ست مجموعات متوازية من الزنازين المتلاصقة التي يطلق عليها «بلوك».. تم تخصيص البلوك رقم ثلاثة تحديدا لعقاب من يخالف النظام داخل سجن شلالات الدم أو يتطاول على الحارسات.
أقفال السجن جميعها مصممة بطريقة تجعلها تزداد عصيانا كلما حاولت فتحها بقوة أو بمفتاح إلكتروني لا يحمل الشفرة الصحيحة من المحاولة الأولى..
النسبة بين عدد الحارسات إلى المساجين 2 : 1، كل مسجون عليه حارستان، هذا بالإضافة إلى 100 حارسة في الفناء الخارجي و8 أبراج مراقبة ودوريتي حراسة تتبدل كل ثماني ساعات لضمان اليقظة الكاملة للحارسات.
كل شيء في هذا السجن مصمم لكسر إرادة المتمردين.. زنازين باردة جرداء مصممة من الخرسانات والفولاذ وعليها حارسات يحملن أسلحة متقدمة، داخل أسوار منيعة عالية أعلى قمتها أسلاك مكهربة..
وإن نجح الرجل المتمرد في الهرب من هذا الجحيم عليه مواجهة الرمال الحمراء المتحركة أو الذئاب الجائعة من خلفه أو البحر بأسماك القرش المفترسة.
باختصار: أرادت الملكة «أسيلا» زرع اليأس في القلوب وسحق فكرة الهرب تماما من عقول المتمردين من الرجال..
أن تجعل مجرد التفكير في الهرب فكرة مستحيلة..
والعجيب أن هذه هي الفكرة ذاتها التي سيطرت على «سيف» ما إن وطئت قدماه أرض شلالات الدم البشعة..
الهرب.

Wednesday 5 March 2014

تمهيد، مقدمة والفصل الأول / الفصل الرابع والعشرين

صفحة الرواية على الفيس بوك

برومو رواية اليعسوب

ساوند تراك رواية اليعسوب

للحصول على نسخة ورقية من موقع أمازون أمريكا

للحصول على نسخة ورقية من موقع أماوزون أوروبا

للحصول على نسخة الكترونية

جود ريدز


الحياة تمتلئ بأبطال عظماء..
قد تكون ما سمعت عنهم..
وقد يكون أناس آخرون أكثر شهرة منهم لا يستحقونها مثلهم.. ووُصفوا أبطالاً..
غيَّروا كثيرًا في مجرى الأمور ولم ينتظروا مقابلاً ما..
بعضهم لقي حتفه وهو يقوم بدوره..
دون أن يترك أثرًا يعلمه من بعده..
هم كثيرون..
ربما أنت واحد من هؤلاء الأبطال.. أو ستكون منهم في يوم ما..
هو اختيارك أنت..
أن تكون واحدًا من هؤلاء الأبطال..
المجهولين.
***

«الأبطال لا يولدون أبطالاً..
المواقف التي يتعرضون إليها..
وموقفهم منها.. عن طريق قيامهم بما يجب فعله في تلك اللحظة تحديدًا..
هي التي تصنع منهم..
أبطالاً».

الفعل المؤثر في الزمن المؤثر..
لكل حدث في هذه الدنيا لحظة فاصلة..
نقطة انطلاق أو انحسار وانكسار..
ليس بالضرورة أن تكون هي اللحظة الأخيرة..
أو التي انتهت إليها الأحداث..
أو خلصت إليها الأمور..
بل هي نقطة في مسار الحدث ترسم شكل النهاية..
وهي اللحظة التي تقترف فيها فعلاً يغير المسار بشكل حرج..
إنها لحظة زمنية (الزمن المؤثر)، التي إذا عدت إلى الوراء إليها وقمت بفعل مختلف (الفعل المؤثر) سيتغير فيها مجرى الأمور.
الفارق بين الهزيمة والنصر..
النجاح والفشل..
التقدم والتأخر..
هو إدراك تلك اللحظة..
وفعل ما كان يتوجب.. في اللحظة المناسبة..
أو فعل ما يجب فعله.. قبل فوات الأوان..

***

تمهيد

منذ قديم الأزل، كانت المرأة هي المشكلة التي لا حل لها..
ربما كان جهل الرجال بطبيعتها وطريقة تفكيرها ما جعلها كينونة غامضة، تتأرجح بين الشر والخير. ولا أكون مبالغا إذا قلت إن كفة الشر كانت هي الأرجح.. ليس هذا من وجهة نظري فحسب، بل هو من وجهة نظر التاريخ البشري أيضا، بل وحتى الأساطير.
إذا كنت في شك مما قلت آنفا، فاسمح لي – من فضلك - أن آخذ من وقتك قليلا لأستعرض لك سريعا لمحات خاطفة من التاريخ القديم والحديث، ولقطات من الأدب العربي والغربي.
عندما دققت في هذا الموضوع - وقرأت كثيرا في هذا التمييز الجنسي عبر العصور، وآراء الفلاسفة مثل سقراط وأبقراط ودانتي وأدينوس ولامارتين ومونترلان وبرناردشو والعقاد وأنيس منصور ونجيب الريحاني الذي قال مقولة طريفة غريبة: «المرأة عنصر يمكن للحياة أن تستمر من دونه.. بدليل أن الحياة كانت سائرة حين خُلق آدم وحده، وقبل أن تُخلق من ضلوعه حوَّاء» - تملكتني دهشة وحيرة ولم أفهم السبب أو حتى لماذا أفردت كتب كاملة في كيفية التعامل مع المرأة، الذي أطلق عليه البعض «فن التعامل مع المرأة»، ناهيك عن بعض الكتب الحديثة التي لاقت رواجا مثل «الرجال من المريخ والنساء من الزهرة» الذي باع ملايين النسخ..
تساءلت حقيقة: لماذا تم تعقيد الأمور بهذا الشكل؟ ولماذا لم يتم التعامل مع المرأة كإنسان مثله مثل الرجل؟ ما أراه من حولي أن كل شيء درجات وطبقات. إذا كنت بين مجموعة من الرجال في العمل فلا بد أن يكون هناك أذكاهم أو أقواهم أو حتى أفضلهم.. مجموعة أصدقاء من البنات يجب أن تكون هناك أجملهن.. صبية يضمهم فصل واحد لا بد أن يظهر أقواهم الذي لا يهزمه أحد في الفصل، وهو مستعد لضرب كل التلاميذ واحدا واحدا، فقط ليثبت لنفسه أنه الأقوى بلا منازع. ناهيك طبعا عن الموظف المثالي وموظف الشهر والطالب المثالي وأحسن واحد في «العيلة» وأذكى إخوته، وهذا الكلام الفارغ.. هل هي طبيعة البشر أن يبحثوا عن التصنيفات والترتيبات والأفضليات في أي شيء وكل شيء؟ وصل الحد بالبعض إلى تفسير جزء من آية قرآنية «وليس الذكر كالأنثى» في إشارة إلى تفضيل الخالق - عز وجل - للمرأة عن الرجل؛ فهو – سبحانه وتعالى – لم يقُل: وليس الأنثى كالذكر!
لا تحدثني من فضلك بهذه الطريقة الغريبة، التي يعجز عقلي عن استيعابها. نحن هنا لسنا بصدد معرفة مَن الجنس الأرقى! ومن قال إن طبيعة الإنسان التفاضلية والتنافسية يجب أيضا أن تصل إلى حد التنافس في نوع الجنس؟! فنحن لا نتحدث هنا عن شعبة من فصيلة الطفيليات نبحث عن أرقاها لنضعها على رأس القائمة.. فالأمر محسوم من الخالق عندما قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».
إذًا لا فضل بين إنسان وإنسان - ذكرا كان أو أنثى - إلا بالتقوى.
انتهى.
أي وجودنا هنا الآن ليس محاولة إثبات أفضلية جنس على آخر، إنما نحن هنا لاستعراض ما الذي مرت به المرأة عبر العصور وحتى كيف صُوِّرت في الأساطير لنحاول فهم المرأة اليوم.. إن ما مرت به المرأة لا بد أنه شكَّل جزءا من الوعي الجمعي لدى الرجال والنساء على حدٍّ سواء، ما قد أدى إلى خلل في طريقة تعامل الرجل مع المرأة والعكس.
عبر التاريخ والحضارات والثقافات، ترددت أسئلة غير منطقية حول المرأة، وصلت إلى حد السؤال: هل هي إنسان؟ هل لها كيان مثل الذكر؟ هل تستحق الاحترام؟ ناهيك عن بعض العقول المتخلفة التي سألت: هل هي نجاسة؟ هل تُعامَل كالرجل؟
حُرمت المرأة من حقوق اجتماعية وسياسية والحق البشري الأصيل حتى في الاختيار، إلى الحد الذي أوجب ظهور اتفاقية من الأمم المتحدة عام 1981 تحاول توثيق وتأصيل حقوق المرأة وعدم جواز التمييز الجنسي بين الذكر والأنثى. إن وجود اتفاقية مثل هذه هو دليل إدانة دامغ ضد ما كان يقوم به المجتمع ضد المرأة، ما أدى إلى ظهور مثل هذه الاتفاقية الغريبة التي ما كان لعاقل أن يتصور ضرورة حتميتها في أن تضمن للمرأة حقوقا ظننتُها فطرية مثل حقوق الإناث في التعليم بل وحتى العلاج!
لن يتسع المجال هنا لدراسة وسرد كيف عُوملت المرأة عبر التاريخ. دعني أذكر لك مثالين: الأول في العصر الجاهلي والثاني في العصور الوسطى لأوروبا.
هل سمعت عن وأد البنات؟ حين كانت تُدفن الصغيرة حيةً، لا لشيء إلا أن نوعها غريب..
أنثى!
أية طبيعة عقل بشري هذه؟ بل وأية نفسية تلك التي جعلت أبا يقتل ابنته؟ لن أحدثك عن شعور البنت نفسها، بل سآخذك إلى نقطة أخرى تبدو لي أخطر.. ماذا عن شعور التي بقيت على قيد الحياة؟
الأم.
وهل سأل أحد عن شعورها وهي تعلم أن ابنتها ستموت، لا لشيء إلا لأنها من الفصيلة نفسها..
أنثى!
لك أن تتخيل مدى الاضطهاد والانكسار والذل، بل والعبودية التي كانت تعيش فيها الزوجة إلى الحد الذي لا تجرؤ معه على الاعتراض على قرار زوجها بوأد الطفلة. إذًا لماذا لا يئدها هي أيضا؟ يبدو أنه ما زال بحاجة إليها لممارسة الجنس والاعتناء به والقيام بأعباء المنزل..
ألهذا خُلقت؟!
لا أخجل من أن أقول إن هناك ذكورا - وليس رجالا - في مجتمعنا المعاصر ما زالوا يتعاملون مع المرأة بنفس عقلية الرجل الجاهلي الذي كان يَئِدُها. إنه لا يستطيع أن يئدها جسديا الآن وإلا انتهى به المطاف بحبل غليظ يلتف حول عنقه.. لكنه ما زال يئدها..
نفسيا..
على الأقل!!
دعني أستعرض لك شكلين من أشكال الوأد البدني لعلك تتصور ما نحن بصدده: 
1- كانت تجلس الحامل عند الولادة قرب حفرة، وعندما تضع بنتا تلقيها بالحفرة وتهيل التراب عليها بأمر من زوجها. وإذا كان المولود ولدا تأخذه وترجع للدار.
2- كان البعض يترك البنت حتى تبلغ السادسة من العمر – لا أدري حقا لماذا السادسة؟! - فيأمر الأبُ الأمَّ أن تزين طفلتها ليأخذها إلى أقاربها. وفي الطريق الذي حفر حفرة فيه يرمي الطفلة فيها ويهيل التراب عليها.
ويُروى أن إحدى النساء عندما وضعت بنتا خافت عليها فهربت بها بعيدا، ثم عادت بها إلى أبيها وعمرها 13 سنة لعل قلبه يرق لهذا الكيان البالغ التكوين من أمامه والمفعم بالحياة، فما كان من الأب إلا أن أخذ ابنته ودفنها في الصحراء، وكان كلما يحفر يتطاير التراب على لحيته فتقوم البنت بنفض التراب عن لحيته.. ببساطة، كرهت المخلوقة الرائعة أن ترى أباها مغبر اللحية بينما هو يحفر ليهيل عليها التراب.
ننتقل إلى العصور الوسطى في أوروبا؛ حيث ذاقت المرأة كئوس الذل والهوان.. هل سمعت عن أقفال العفة؟ أقفال من الحديد تُركَّب في أحزمة حول موضع عفتها، لا لشيء إلا لسوء الظن وعدم الثقة في أخلاقها. هذه المفاتيح تبقى مع الزوج لا تفارقه لحظة. ظهرت أيضا أقفال الفم، توضع عند خروجها من المنزل حتى لا يدور بينها وبين الرجال حديث تغويهم به إلى ممارسة الرذيلة.
لقد كانت النساء في أوروبا متأخرات، جاهلات، يقفن عقبة في سبيل العلم والنور، وكانت الكتب الشرعية تضطرم بسخط شديد على مجرد وجود النساء في العالم. كان يُقال لهن: يجب أن تخجلن من كونكن نساء، وأن تعِشن في ندم متصل، جزاء ما جلبن على الأرض من شقاء ولعنة. وشاعت في تلك الفترة عقيدة الزهد والإيمان بنجاسة الجسد، ونجاسة المرأة، وباءت المرأة بلعنة الخطيئة الأولى، فكان الابتعاد عنها حسنة مأثورة.
واجتاحت فكرة «المرأة الساحرة والمشعوذة»، في أوروبا في القرون الوسطى، وفي أمريكا في القرون الحديثة، فكان يتم تعذيب وحرق وقتل أي امرأة يتم الاشتباه بأنها «ساحرة»، فضلا عن تخصيص بعض المدن محاكم خاصة لـ«النسوة الساحرات».
امتدت الإساءة إلى المرأة عبر المؤلفات والحكم والأشعار. وكثرت مؤلفات الفلاسفة والعلماء والمفكرين في العصور الوسطى التي تتناول المرأة بشكل مسيء.. أبدعوا في خلق كائنات غريبة ومخيفة تشبه النساء وأطلقوا عليها تسميات مختلفة.
وزحفت تلك الأساطير إلى المجتمعات الخليجية؛ ففي كتب التراث - على سبيل المثال - كان يتم تصوير بعض النسوة بالكائن المخيف والشرير، حتى أضحت أم السعف والليف والسلعوة وحمارة القايلة شخصيات مشهورة يتم ترهيب وتخويف صغار السن بهن.
وفي مصر، ظهرت النداهة وأمنا الغولة.. هم في هذه الأسطورة يصورون جمال المرأة بأنه لعنة وكل من يركض خلف هذا الجمال ستحل به الكوارث المميتة.. وفي الأسطورة اليونانية (المرأة الأفعى) مثال واضح على تصوير المرأة كمخلوق شيطاني يقتل ويسفك الدماء، وليس هذا فقط؛ فهذه المخلوقة الشنيعة تقتات على ضحاياها من الرجال والأطفال؛ حيث تمتص دماءهم لآخر قطرة ثم تتركهم ليموتوا ببطء شديد.
وأسطورة «باندورا» التي أُعطيت وعاء مغلقا لتحمله، واشتُرط عليها ألا تقوم بفتحه؛ لأن بفتحه ستموت البشرية، لكن «باندورا» كانت فضولية فغلب الفضول عقلها ولم تهتم بالكوارث المريعة التي ستصيب البشرية!! فقامت وفتحت الوعاء لتخرج منه أمراض وكوارث فتكت بكل البشر، ولم يبقَ في الوعاء غير الأمل، فكانت بذلك سببا في تبديد الخير وانتشار جميع الآثام والشرور. في هذه الأسطورة بكل بساطة وُصفت المرأة بأنها ضعيفة العقل لا تتحمل المسئولية وهي السبب الرئيس في دمار البشرية.
لا أريد أن أجادل هنا في الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة وسأكتفي بنقطة واحدة. في القرآن الكريم هناك سورة كاملة هي النساء.. وهل هي مصادفة أن تكون أعظم عبارات العدالة في العالم وعبر التاريخ داخل تلك السورة تحديدا؟
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».
الآن، وفي هذه الرواية، سيتحول العبد إلى السيد. وستُعطَى الضحية السوط لتجلد الجلاد. عبر الصفحات التالية سنرى عالما تحكمه النساء وملكة قاسية لا ترحم، قسمت الرجال نوعين، وتحاول إذاقة الرجل بعضا مما مرت به المرأة عبر العصور. قد ترى أشكالا من وأد الرجل ورجالا يرتدون حزام العفة.. ستُعقد مهرجانات تشبه سوق النخاسة لاختيار أقوى الرجال وأشدهم وسامة.. وقد تشاهد رجالا ليس لهم الحق في التعلم أو الاختيار.. هناك سجن جهنمي مصمم لتحطيم أي محاولات ذكورية لعكس الأوضاع.. ستعايش تجارب هندسة وراثية لتحقيق طفرات جينية مجنونة. في هذا العالم سيحاول الرجال التحرر من ذلك الأسر والثورة على أوضاعهم لعلهم يحصلون في النهاية على اتفاقية مماثلة كالتي حصلت عليها النساء في عام 1981، لكن تحت عنوان مختلف هذه المرة: «اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد الرجل عام 2071».
فهل ينجح الرجال في الحصول على حقوقهم كاملة في العلم والعمل والحياة؟

مقدمة


اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة
اعتُمدت وعُرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 34/180 المؤرخ في 18 ديسمبر 1979.
تاريخ بدء النفاذ: 3 سبتمبر 1981، وفقا لأحكام المادة 27 (1).

إن الدول الأطراف في هذه الاتفاقية، إذ تلحظ أن ميثاق الأمم المتحدة يؤكد من جديد الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد وقدره، وبتساوي الرجل والمرأة في الحقوق.. 
وإذ تلحظ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد مبدأ عدم جواز التمييز، ويعلن أن جميع الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وأن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات الواردة في الإعلان المذكور، دون أي تمييز، بما في ذلك التمييز القائم على الجنس..
وإذ تلحظ أن على الدول الأطراف في العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان واجب ضمان مساواة الرجل والمرأة في حق التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية.. 
وإذ تأخذ بعين الاعتبار الاتفاقيات الدولية المعقودة برعاية الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة، التي تشجع مساواة الرجل والمرأة في الحقوق..
وإذ تلحظ أيضا القرارات والإعلانات والتوصيات التي اعتمدتها الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة، للنهوض بمساواة الرجل والمرأة في الحقوق..
وإذ يساورها القلق، مع ذلك؛ لأنه لا يزال هناك، على الرغم من تلك الصكوك المختلفة، تمييز واسع النطاق ضد المرأة..
وإذ تشير إلى أن التمييز ضد المرأة يشكل انتهاكا لمبدأي المساواة في الحقوق واحترام كرامة الإنسان، ويعد عقبة أمام مشاركة المرأة، على قدم المساواة مع الرجل، في حياة بلدهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويعوق نمو رخاء المجتمع والأسرة، ويزيد من صعوبة التنمية الكاملة لإمكانات المرأة في خدمة بلدها والبشرية..
وإذ يساورها القلق، وهي ترى النساء، في حالات الفقر، لا ينلن إلا أدنى نصيب من الغذاء والصحة والتعليم والتدريب وفرص العمالة والحاجات الأخرى.. 
وإذ تؤمن بأن إقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد، القائم على الإنصاف والعدل، سيسهم إسهاما بارزا في النهوض بالمساواة بين الرجل والمرأة.. 
وإذ تنوه بأنه لا بد من استئصال شأفة الفصل العنصري وجميع أشكال العنصرية والتمييز العنصري والاستعمار والاستعمار الجديد والعدوان والاحتلال الأجنبي والسيطرة الأجنبية والتدخل في الشئون الداخلية للدول إذا أريد للرجال والنساء أن يتمتعوا بحقوقهم تمتعا كاملا..
وإذ تجزم بأن من شأن تعزيز السلم والأمن الدوليين، وتخفيف حدة التوتر الدولي، وتبادل التعاون فيما بين جميع الدول، بغض النظر عن نظمها الاجتماعية والاقتصادية، ونزع السلاح العام، لا سيما نزع السلاح النووي في ظل رقابة دولية صارمة وفعالة، وتثبيت مبادئ العدل والمساواة والمنفعة المتبادلة في العلاقات بين البلدان، وإعمال حق الشعوب الواقعة تحت السيطرة الأجنبية والاستعمارية والاحتلال الأجنبي في تقرير المصير والاستقلال، وكذلك من شأن احترام السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية، النهوض بالتقدم الاجتماعي والتنمية، والإسهام، نتيجة لذلك في تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة.. 
وإيمانا منها بأن التنمية التامة والكاملة لأي بلد، ورفاهية العالم، وقضية السلم، تتطلب جميعا مشاركة المرأة، على قدم المساواة مع الرجل، أقصى مشاركة ممكنة في جميع الميادين..
وإذ تضع نصب عينيها دور المرأة العظيم في رفاء الأسرة وفي تنمية المجتمع، الذي لم يُعترف به حتى الآن على نحو كامل، والأهمية الاجتماعية للأمومة ولدور الوالدين كليهما في الأسرة وفي تنشئة الأطفال.. 
وإذ تدرك أن دور المرأة في الإنجاب لا يجوز أن يكون أساسا للتمييز، بل إن تنشئة الأطفال تتطلب بدلا من ذلك تقاسم المسئولية بين الرجل والمرأة والمجتمع ككل.. 
وإذ تدرك أن تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة يتطلب إحداث تغيير في الدور التقليدي للرجل، وكذلك في دور المرأة في المجتمع والأسرة.. 
وقد عقدت العزم على تنفيذ المبادئ الواردة في إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة، وعلى أن تتخذ، لهذا الغرض، التدابير التي يتطلبها القضاء على هذا التمييز بجميع أشكاله ومظاهره.

الفصل الأول


المكان: فرنسا - سجن الباستيل 

الزمان: أواخر القرن السابع عشر 

تقدم ثلاثة حراس داخل سجن الباستيل – الذي يتميز بأهمية ضيوفه وشهرة الجرائم التي قاموا بها - في خطوات مقبضة تحمل الموت في طياتها إلى داخل زنزانة حبس انفرادي.
كانت الليلة هي ليلة تنفيذ حكم الإعدام على سجينة غير عادية: مورين أندريا.
خطوات الحراس ثقيلة، عالية، مخيفة.. ممرات السجن – بألوانها الرمادية – وأرضيتها القاتمة.. شعلات النيران على مسافات منتظمة داخل تجويف الحائط بذلك الممر الضيق تلقي ظلالا مخيفة وخيالات مرعبة مع صوت صفير الرياح في الخارج وتسلل صوت الرعد من وراء الجدران ليذكر من بالداخل أن العاصفة لم تهدأ بعدُ.
فجأة، هبت رياح ساخنة لفحت وجوه الحراس الثلاثة داخل الممر المغلق وأطفأت جميع شعلات النيران الموجودة بداخله والذي يوجد في نهايته زنزانة مورين أندريا..
- يا للشيطان! ما الذي يحدث؟ من أين هبت تلك الرياح الساخنة؟ إن الممر مغلق تماما!
قالها أحد الحراس وهو يركض مع زملائه باتجاه الزنزانة وزميله يقول: 
- كنت أعلم أن هذه الليلة ستكون ليلة مشئومة.. هذه المرأة ساحرة لعينة.
وصل الحراس الثلاثة إلى الزنزانة وتحولت ملامحهم من التوجس إلى الرعب الممزوج بالدهشة..
فالزنزانة كانت خالية تماما ولا وجود لمخلوق بداخلها..
فتح الحارس قفل الزنزانة وهو يقول: 
- أيها الرب.. ساعدنا.
وقف الثلاثة في رعب يتطلعون إلى تلك الصورة الكبيرة المرسومة التي احتلت حائط الزنزانة المواجه لمدخلها..
صورة مورين أندريا..
بل صورة لجسد مورين أندريا.. ولكن بوجه بشع يختلف عن وجهها الذي عُرفت به.
عاشت مورين أندريا في مدينة مارسيليا في فرنسا.. تزوجت أربعة رجال أغنياء ماتوا جميعهم ميتة غامضة مريبة.. أنجبت خمسا من الإناث وثلاثة من الذكور.. جميع أولادها من الذكور ماتوا في الشهر الأول.. كانت مورين أندريا إحدى أكثر النساء شؤما في زمانها ولم تكن محبوبة من قِبَل جيرانها لسلوكها المتغطرس وعجرفتها، إلى جانب غناها المفرط الذي كان مصدر حسد وحيرة الكثيرين.
تزوجت «مورين» زوجها الخامس والأخير – بعد موت زوجها الرابع –آلان سباستيان، الذي سقط صريعا بعد عدة أشهر من الزواج بمرض غريب أدى إلى سقوط أظافره وخصلات شعره.
هنا بدأت بناتها من أزواجها السابقين يلمحن إلى أن آباءهن ماتوا بالطريقة المريبة نفسها بعد مرورهم بتلك الأعراض الغريبة.
كان «آلان» يحب زوجته فعلا ولم يكن ليسمح أن يلمح أحد أمامه بأي أمر يسيء إلى محبوبته «مورين». عاد ذات ليلة من رحلة عمل قبل موعده بأسبوع كامل وقرر مفاجأة زوجته.. لم يعثر لها على أثر داخل المنزل، وبسؤال مدبرة المنزل أجابت: 
- هي في القبو منذ ساعات.. تركت تعليماتها بعدم اقتحام خصوصيتها لأي سبب كان.
لم يبالِ «آلان» بما تقوله مدبرة المنزل، فزوجته أوحشته كثيرا..
دخل القبو - الذي لم يطأه من سنين - وهاله ما رأى..
أجزاء من جثث أطفال صغيرة.. خبز الطقوس منقوش عليه اسم الشيطان.. كثير من الشعر والأظافر.. باختصار: كل ما يدل على أن محبوبته تمارس السحر والشعوذة وكل ما يثبت صحة الشائعات..
اندفع يركض خارج القبو في ذعر وأبلغ الأسقف تيبوت فرانسوا، الذي كان معروفا بمدى صرامة أحكامه حول السحر والشعوذة. وبعد التقصي والتحقيق اتهمها الأسقف بممارسة السحر وتم إلقاء القبض عليها وعلى خمسة عشر شريكا تم اكتشافهم فيما بعد بينهم إحدى بناتها وخادمتها الخاصة.
كشفت التحريات التي أجرتها الكنيسة عن أن «مورين» كانت تنسل في الليالي المقمرة للقاء شركائها في الكنائس المهجورة والمقابر؛ حيث تتم بها إقامة طقوس خاصة وتقديم الحيوانات الحية قرابين للشيطان ومن ثم تنزع أطرافها وتنثرها في مفارق الطرق. ثبت أيضا أنها كانت تصنع تعاويذ ومراهم خاصة من مكونات شريرة كشعر المجرمين الذين تم شنقهم وأظافر أُخذت من رجال موتى وأمعاء حيوانات وديدان وأعشاب سامة ولحم أطفال ماتوا قبل العماد.. وقد ذكر في السجلات أنها كانت تغلي كل تلك الأشياء في جمجمة لص قُطع رأسه من قِبَل الكنيسة.
تم أيضا توجيه تهمة غريبة للغاية لها:
علاقة مع شيطان!
شيطان يدعى روبرت أربيتسون، الذي وُصف بأنه رفيقها وأنه يظهر معها في بعض الأحيان على هيئة قط ضخم أسود. وحاولت الكنيسة بشتى الطرق إلقاء القبض على هذا المخلوق غير المعروف، إلا أن هناك شائعة سرت بأن هذا المخلوق شخص نبيل لا تجرؤ الكنيسة على إلقاء القبض عليه.
وفي النهاية تم الحكم عليها بالإعدام، إلا أنها اختفت تماما من داخل الحصن - سجن الباستيل - على الرغم من الحراسة المشددة - تاركة تلك الرسمة المشوهة على حائط الزنزانة.
ولغزا قائما حتى اليوم!

***

المكان: المملكة الجنوبية المتحدة (مصر والسودان والنوبة) - قطاع الصحراء الشرقية.
الزمان: الثاني عشر من شهر ديسمبر لعام 2071 ميلادية.
أوشكت الشمس على المغيب بلونها الأحمر الحزين معلنة عن انقضاء ذلك اليوم. ومع اختفائها داخل البحر، بدأت الظلال تنحسر عن ذلك الطريق الجبلي الذي انطلقت عليه سيارة رياضية حديثة بسرعة عالية، والتي بدت وكأنها تسابق الظل في عكس اتجاهه. بداخلها ثلاث فتيات وشاب وسيم يجلس على المقعد الخلفي، موفور الصحة، لا يبدو عليه أنه مندمج مع رفاقه، بل بدا منشغلا شارد الذهن شاخص البصر من وراء زجاج السيارة، غير مبالٍ بضحكاتهم العالية التي جاوزت زجاج السيارة المغلق على الرغم من صوت موسيقى الروك التي تصدح بصوت يصم الآذان.
كان يقف على قارعة الطريق حينما عرضت عليه الفتاة التي تقود السيارة أن تقله معهم.. هو في حالة تشويش ذهني كامل وكأنه أفاق من غيبوبة.. لا يدري أين يقف ولا كيف جاء إلى هذا المكان.. الغريب أنه تذكر اسمه بصعوبة حينما سألته الفتاة عن اسمه..
- «هدى».. هناك كمين شرطة من أمامك.. أبطئي سرعتك قليلا من فضلك.
قالها الشاب في حزم وتوتر.
اعتدلت «هدى» في جدية خلف عجلة القيادة وهي تهز رأسها يمينا ويسارا في محاولة فاشلة للرجوع إلى وعيها، ثم قالت في سرعة وهي تحاول أن تفيق من حالة النشوة المسيطرة عليها: 
- أخفوا زجاجات الخمر..
وعلى بُعد أمتار قليلة - قبل أن تقف السيارة - كانت هناك شرطية تشير إلى السيارة بأن تتوقف، ثم أشارت بيدها بما معناه أنه أمر بإنزال زجاج السيارة، وقالت في صرامة لـ«هدى»:
- مخالفة سرعة.
وعندما حمل نسيم البحر المحمل باليود رائحة الخمر مع فتح زجاج السيارة، أشارت لهم جميعا بالنزول من السيارة، وعلى الفور هبطت شرطيتان أقل رتبة من سيارة الشرطة واتجهتا صوب السيارة لتفتيشها.. بدت علامات القلق الشديدة على البنات الثلاث اللاتي بدت أعمارهن جنوب العشرينات أو شمال الثلاثينات. بينما وقف الشاب صامتا يراقب الموقف في حذر.
- هل أنت رجل أم يعسوب؟
وجهت الشرطية - أعلاهن رتبة – إلى «سيف» هذا السؤال في لهجة آمرة متعالية، ثم أتبعت: 
- إذا كنت رجلا فاكشف عن ذراعك اليمنى وإذا كنت يعسوبا فاكشف عن اليسرى.
اتجه إليها «سيف» في لا مبالاة كاشفا عن ذراعه اليسرى، ما جعلها تفهم أنه يعسوب بمجرد رؤية وشم بارز على العضد الأيسر. أمسكت الشرطية بذراعه ورفعت جهازا إلكترونيا حديثا انطلق منه شعاع ليزر مسح مكان الوشم الذي يشبه «الباركود» فظهرت بيانات الشاب كاملة على لوحة الماسح الإلكتروني.
تطلعت إليه في دهشة وقالت: 
- سيف الدين، يعسوب من المستعمرة الأم!! هارب ومطلوب للعدالة.
ثم قربت ساعدها الأيسر الذي يحمل ساعة «الجير» المتصل بجهاز بث لا سلكي حديث من فمها وقالت: 
- لقد أمسكنا باليعسوب الهارب «سيف»، في المنطقة التاسعة.. كود المستعمرة السداسية الذي ينتمي إليها «أ ك 1» التابعة للقصر الملكي مباشرة ورقمه الكودي «3».
ثم وضعت يدها في جيبه وأخرجت منه شاشة إلكترونية رفيعة تشبه جهاز الـ«آي باد»، والتي لم تكد تخرجها حتى تلونت بلون أحمر وأصدرت أزيزا متقطعا يشبه الإنذار، دلالته أن الشخص الماثل أمامها لا يجوز له الوجود في هذا المكان، ما جعل الشرطية تقول في شراسة: 
- يبدو أنك ستقضي ما بقي من عمرك في سجن الشلالات.
***

على مساحة 160 كيلومترا مربعا يقع منجم السكري، أشهر وأكبر منجم ذهب في مصر وثالث أكبر منجم في العالم، يقع في منطقة «جبل السكري» الواقعة في صحراء النوبة، جزء من الصحراء الشرقية 30 كم جنوبي «مرسى علم» في محافظة البحر الأحمر المصرية.
وعلى عمق 1000 متر تحت سطح الأرض - حيث تزيد الحرارة والضغط بشكل غير عادي - انتشر عدد كبير من الرجال يعملون في كد وتعب معظمهم، إن لم يكن كلهم، هزيلو البنية تبدو عليهم علامات سوء التغذية والفقر والوهن. يرتدون ثيابا رثة وزيا موحدا يشبه «عفريتة» الميكانيكي. وفي مشهد متناقض تماما، كانت بينهم سيدات - عددهن أقل - في وفرة من الصحة تبدو عليهن أمارات النعمة والقوة، أطول نسبيا من جميع الرجال في المكان وتحمل كل منهن سوطا رفيعا وتجوب المكان في قوة وغطرسة.
انحرف رجلان في ممر ضيق جانبي بعيدا عن العيون؛ حيث ارتكن أحدهما على الأحجار الساخنة وهو يتصبب عرقا ثم قال:
- أنا تعبت.. خلاص مش قادر يا «عماد».
كان «عماد» مشغولا بإدرار بوله على جدار صخري موليا ظهره لصديق عمره «صلاح» وهو يجيبه مازحا كعادته في أخذ الأمور باستخفاف نتيجة أميته وجهله:
- يفيد بإيه التعب يا تعب وأنا أعمل إيه يا عذاب.
قاطعه «صلاح» حانقا: 
- انت يا أخي إيه؟ ما بتحسش؟ رايق أوي سعادتك!
أغلق «عماد» سوستة بنطاله دون أن يبالي بأن يستبرئ من النجاسة وقال بابتسامة واهنة:

- أعمل إيه بس يا أبو صلاح؟ ما هو من غلبي يا أخي بدل ما أطق.. إحنا كده كده ميتين.. ما هو الواحد في أم الشغلانة دي لإما هيقع تنكسر رقبته لهينفجر أو هيكهرب.. ولو نجا من كل الحاجات دي وربنا كتبله عمر رئته هتسود أو نظره هيبقى شيش بيش.. فيه إيه يا جدع؟ قضيها وانت ساكت.
قال «صلاح» في ضيق ولم يبدُ عليه أي انفراجة في الأسارير: 
- فاضلك تقول أو يجيلنا انزلاق غضروفي من كتر الانحناء وتبقى بتقول كل اللي حذرت منه مشا.
نظر له «عماد» في غباء ثم لم يلبث أن رفع حاجبه وقال بلهجة سوقية واضعا يديه على كتف «أبو صلاح» كما يحلو له أن يناديه: 
- مشا ولا قاعد؟ ما تخليك شويّه يا أبو صلاح.
أزاح «صلاح» يديه في اشمئزاز كأنه يزيل صرصورا من على كتفه: 

- قولتلك مية مره ابقى استنجى.. مشا يا حمار.. MSHA.
ثم استطرد «صلاح» وأسند رأسه على الحائط ثم شرد ببصره بعيدا وكأنه يحادث نفسه: 
- Mine Safety and Health Administration.. منظمة إدارة صحة وسلامة التعدين.
ثم شرد ببصره وهو يستعيد أحداثا مرت به طوال سنوات عمره الأربعين التي قضى نصفها تقريبا في المنجم نفسه؛ حيث تم دفن 33 عاملا احتُجزوا تحت الأرض لمدة 67 يوما إثر انهيار سطح المنجم عليهم. وفي حادثة أخرى حدث انفجار داخل المنجم أسفر عن موت أكثر من ثلاثين عاملا، وفي اليوم نفسه احتُجز أربعة من العمال، ثم تم العثور على جثتين لعاملين منهم كانا عالقَين داخل المنجم، كما قُتل 25 من عمال المنجم بسبب انفجار خاطئ في أثناء التنقيب.. و...
قاطعه «عماد» من شروده وهو يمرر راحتيه أمام وجه صديقه: 
- إيه يا أبو صلاح، انت روحت فين؟ وبعدين انت عرفت الكلام الإنجليزي ده فين؟
أطرق «صلاح» برأسه وصمت هنيهة بدا فيها لـ«عماد» أنه لن يسمع إجابة عن سؤاله، ثم قال بصوت خفيض به غصة: 
- أنا عمري ما بطلت قراءة وتعليم.. أنا بعتبر نفسي معايا بكالوريوس.
لم يكد ينتهي من عبارته حتى ظهرت أمامه فجأة إحدى الحارسات وانهالت بالسوط على ظهر «عماد» وقالت: 
- عُد إلى العمل.
والتفتت إلى «صلاح» وهمَّت بتكرار فعلتها، لكن «صلاح» كان أسرع منها؛ حيث دفع أمامه «عماد» وابتعد عن مرمى بصرها.
كان الجو العام داخل المنجم كئيبا؛ حيث الظلام والتربة الطينية والحرارة والرطوبة والارتفاعات الشاهقة والصخور التي تعكس خيالات مرعبة حينما يسقط عليها ضوء الكشاف المعلق في جبين العمال. من الصعب أن تتخيل أن هذا المكان الموحش يتم فيه استخراج 128 كيلوجراما من الذهب يوميا، وهو ما يعادل العشرات من ملايين الجنيهات.
وبالقرب من محطة الصهر الرباعية داخل المنجم، كان يسير شاب في العقد الثالث من عمره يحمل خريطة جيولوجية حينما اعترض طريقه عاملان وقال أحدهما له في سخرية: 
- «حسام»، الشاب الأخرس، انت لسه مش ناوي تتكلم معانا؟!
لم يبدُ على «حسام» أنه سمع هذه العبارة وانطلق في طريقه مطرقا إلى الأرض، وهو الأمر الذي استفزهما.. فوضع العامل الآخر يديه على كتف «حسام» ليستوقفه بالقوة قائلا: 
- انت شايف نفسك على إيه؟ انت زيك زينا عامل في المنجم ده.
ثم، ليزيد من استفزازه، قام بجذب الخريطة من يد «حسام»، وفي ثانية أشعل فيها النيران بقداحته ثم ألقاها أرضا وهو ينظر إلى عيني «حسام» في تحدٍّ.
لم يبدُ أدنى أثر من المبالاة على وجه «حسام» وابتعد عنهما في صمت دون حتى أن ينظر في وجهيهما، وفي اللحظة التالية سمع الجميع صوت «عماد» عاليا: 
- الحقونا يا اخوانا.. «أبو صلاح» جاتله صدمة حرارية.. الراجل شكله بيموت.
اندفع «حسام» راكضا في اتجاه صوت «عماد» واخترق صفوف العمال الذين تجمعوا حول «صلاح» ليزيحهم بكلتا يديه في قوة، ثم حمله على كتفيه واتجه به راكضا في اتجاه قطاع «آمون» - أحد القطاعات الأربعة التي ينقسم إليها المنجم - حيث توجد وحدة إسعافات أولية. والعمال ينظرون في دهشة كيف استطاع «حسام» بجسده النحيل أن يحمل «صلاح» ويركض به هذه المسافة وسط الصخور الوعرة. حتى إن «عماد» كان يجاهد في اللحاق به والذي ارتفع حاجباه في دهشة حينما رآه يقفز بروزا صخريا يتجاوز المتر ارتفاعا وهو يحمل «صلاح» الفاقد للوعي على كتفيه كطفل صغير وقال له: 
- إيه يا عم السوبر مان.. طالما الموضوع كده ما تشيلنا إحنا الاتنين.. يخرب عقلك.. انت جبت الصحة دي منين؟ ولا باين عليك يا جدع.. انت ياض أنا مش لسه ضاربك علقة الأسبوع اللي فات؟ فيه إيه يا جدع ولا أنا ضربت واحد تاني وانا مش حاسس ولا إيه؟ يخرب بيت أم الحشيش اللي ضيَّع عقل الواحد...
قبل أن يتم عبارته كان «حسام» قد بلغ وحدة الإسعافات الأولية التي كان يقف على بابها حارستان قويتان تحملان السوط الإلكتروني ذاته. أشارت إحداهما إلى «حسام» بالتوقف وسألته: 
- ماذا هناك؟
لم يجب «حسام» وإنما أشار بعينيه إلى «صلاح» الفاقد للوعي في اللحظة التي وصل فيها «عماد» لاهثا وقال: 
- يا أخي مش وقت إشارات وحياة والدك.
ثم وجَّه عبارته إلى الحارسة وقال وهو يجاهد لاستنشاق الهواء: 
- أبو صلاح عنده صدمة حرارية.. بيموت.
أشارت الحارسة بيديها لـ«عماد» وقالت في لا مبالاة: 
- انت هتستنى هنا.. واحد بس هيدخل معاه.
دلف «حسام» بحمله إلى العيادة وهو ينظر في قلق إلى «صلاح»، كان في داخل وحدة الإسعافات الأولية دكتورة شابة، رشيقة، على قدر من الجمال تمتلك عينين جذابتين تنمَّان عن روح نقية وذكاء واسع. لم تلبث أن انفرجت أساريرها حينما وقع بصرها على «حسام»، ثم قامت في لهفة يصعب تمييز سببها أهي بسبب رؤية «حسام» أم إنقاذ «صلاح» أم الاثنين معا وهي تقول: 
- ماله؟ إيه اللي حصل؟
لم يُجِب «حسام» وإنما أشار بعينيه في حزن ناحية «صلاح» ثم أتبعها بنظرة رجاء وأمل في اتجاه الدكتورة التي أشارت إليه بدورها أن يضع جسد «صلاح» على سرير طبي صغير وقالت: 
- ما تقلقش، أنا هعمل اللازم.
أخذت الدكتورة تمارس عملها وهي تحاول إنقاذ «صلاح»، بينما «حسام» ينظر إليها. وقع نظره على اسمها المعلق بدبوس أنيق على البالطو الأبيض الذي ترتديه، فنظرت له نظرة سريعة وقالت وهي تعاود عملها: 
- انت بتعرف تقرا؟
لم يجب «حسام» كعادته، فتابعت وكأنها فهمت: 
- اسمي «حنان»..

ثم نظرت في اتجاه ساعد «حسام» الأيمن وقرأت اسمه موشوما - كما تنص القوانين - تحته مجموعة من الأرقام وقالت:
- اسمك «حسام»؟ اسم جميل.. وُلدت في عام 2051.
كان «صلاح» قد بدأ في استعادة وعيه فرفعت الدكتورة ساعده الأيمن وقرأت اسمه وقالت: 
- انت تعبان يا «صلاح» وعندك سحار رملي كمان من غبار المنجم. ده بالإضافة إلى تليف رئوي.
- كل شغلانة وليها أمراضها.
- «صلاح».. انت هتطلع «الوحدة 97» علشان تتعالج.
- بس دي أكتر من السجن يا دكتورة.. ومين قال إني عايز أتعالج؟ أنا كده كويس.
- لأ مش كويس يا «صلاح»، الموضوع منتهي.. أنا هكتبلك تصريح خروج.
راقب «حسام» ما يحدث في صمت والدكتورة «حنان» تتحدث في جهاز اتصال داخلي لتخبر الحارسات بأمر نقل «صلاح» إلى «الوحدة 97»، ثم قام بتوديع «صلاح» بنظرة صامتة وترك وحدة الإسعافات الأولية في سرعة
***
...يتبع الفصل الثاني