لقي
تسعة من رجال الإنقاذ حتفهم..
كانوا يحاولون إغاثة العشرات من عمال منجم «رباح» الذي انهار جزء منه، في منطقة القصير..
حسب ما أفاد شاهد عيان أكد أن الحصيلة بلغت مائة قتيل.
وأعلن أحد
عمال المنجم - كان حاضرا عند وقوع الحادث - طالبا عدم كشف هويته:
«فُقد تسعة
من رجال الإنقاذ عندما انهارت الأرض من حولهم..
إن رائحة
الموت تنبعث من منجم الذهب، وحصيلة أعدها موظفون في المنجم تفيد بوجود أكثر من مائة
شخص داخله عند انهياره.
وتابع:
أمس الخميس عُثر على ثماني جثث وما زال البحث عن الجثث الأخرى جاريا».
كان «حسام»
يشاهد الأخبار على شاشة العرض الحديثة في الجانب الأيسر - المخصص للرجال - من القطار
في صمت؛ حيث لا يجوز له كرجل أن يجلس في الجانب الأيمن أو الوجود في الدرجة الأولى،
وهذا شأن جميع وسائل النقل البري والبحري والجوي..
كل يوم
يُنهي عمله ليقطع تذكرة القطار عائدا إلى منزله، يشعر بالمهانة الشديدة وهو يقف في
الطابور ويتذكر أنه غير مسموح له بالجلوس في الدرجة الأولى وأن المقاعد المتاحة له
فقط في الجانب الأيسر..
لقد سئم
حياته تماما..
هو يمتلك
قدرا كبيرا جدا من الاعتزاز والكرامة، ولهذا هو لم يستطِع استيعاب كل ما يدور من حوله
ولا كيف بدأ هذا كله.. كان هذا أيضا أحد أسباب صمته الطويل جدا الذي لا ينقطع.
لا تستطيع
أن تجزم على وجه الدقة إذا كان قد لاحظ نظرات «حنان» التي دائما ما تجلس في الجانب
الأيمن على مقعد يسمح لها باختلاس النظرات إليه أم أنه يتجاهلها.. هي نفسها لا تعرف،
لكنها تعرف فقط أنها تحبه بعمق.. تحبه كما لم تحب أحدا من قبل.. تحب صمته.. تحب حضوره
الطاغي وشخصيته الواضحة القوية.. تحب اعتزازه الشديد بنفسه.. تحب شعره الأسود وأنفه
الدقيق وشفتيه الحازمتين.. دائما تنظر إلى عينيه السوداوين الواسعتين وتتمنى لو ألقت
نفسها بين ذراعيه لتعلن استسلامها وخضوعها وعشقها غير المشروط.. لم تشعر «حنان» بمعنى
كلمة رجل إلا أمام «حسام» وكأن العالم كله تحول إلى عالم أنثوي وبه رجل واحد فقط..
«حسام».
كانت تختلس
النظرات إليه ولا تستطيع قراءة تعبيرات وجهه الجامدة غير المعبرة.. تتمنى لو تعرف مكنونات
صدره.. ماذا يحب.. وماذا يكره.. ما الذي يضحكه.. وما الذي يحزنه.. ما أكلته المفضلة..
تتمنى لو تعرف هذا كله وأكثر حتى تُفني عمرها في خدمته وإسعاده.. كلما غرقت في أفكارها
تجاهه تكاد تفقد السيطرة على نفسها وتذهب إليه لتخبره كم هي عاشقة.. وفي هذه المرة
بالتحديد فقدت السيطرة تماما على مشاعرها واتخذت قرارها - دون النظر إلى العواقب -
واندفعت تجاهه و...
فجأة تسمرت
مكانها.. كانت هناك سيدة في عقدها الرابع تتحدث إلى «حسام» في استعلاء وخشونة:
- يا رجل..
إني آمرك بترك مقعدك لي.
نظر لها
«حسام» في صمت ولم يحرك ساكنا.. إنه يعلم القوانين جيدا.. الرجال في الدرجات الدنيا
وعلى الجانب الأيسر، وفي حالة الازدحام الشديد، عندما تكون جميع المقاعد شاغرة في الجانب
الأيمن، لا يجوز أن تقف امرأة، أيا ما كان الأمر ورجل يجلس، ويجب أن يخلي لها الرجل
فورا مقعده.
إن «حسام»
إنسان شديد اللباقة، وهو في الأحوال العادية يقوم بهذا على سبيل المروءة، لكن لم تعجبه
نبرة المرأة الاستعلائية، ولهذا ظل في مقعده وتجاهلها تماما..
كان يعلم
العواقب، لكنه أصر على المضي في الطريق قدما.. وهذا ما أشعل غضب وحنق المرأة التي لم
تلبث أن ضغطت زرا على مقعد «حسام».. وعلى الفور ظهرت حارستان قويتان تحملان السياط
الإلكترونية ذاتها واللتان فهمتا بدورهما ما يحدث فاندفعتا على الفور وضربت إحداهما
على ذراع «حسام» اليمنى بالسوط الذي أطلق أزيزا خافتا وتلوَّن بلون أزرق باهت وكأنه
يفرغ شحنة ما في جسد «حسام» الذي سقط على أثرها مغشيا عليه في الحال. فأمسكت الحارسة
بياقته وجذبته ليسقط من على الكرسي ثم أشارت إلى المرأة أن تجلس. ألقت المرأة بدورها
على «حسام» نظرة استحقار ثم تعمدت أن تضغط على جسده بقدميها وهي تجلس في مكانه.
وفي أقل
من دقيقة ظهر رجلان يدفعان ما يشبه عربة صغيرة وألقيا جسد «حسام» الفاقد للوعي بداخلها..
عادت «حنان»
إلى مقعدها وقلبها يستشعر حزنا عميقا.
كانت تعلم
ما الذي سوف يحدث لـ«حسام» بعد ذلك وكيف أنها قد لا تراه ثانية أبدا. «حسام» في طريقه
الآن، وللأبد، إلى سجن الشلالات نتيجة تمرده على القوانين الوضعية للملكة.. كانت حزينة
ومنبهرة به تماما.. كيف يمتلك تلك الجرأة والقوة والاعتزاز وهو مجرد رجل؟! هو حتى ليس
يعسوبا من رجال الملكة.. لماذا هو مختلف عن كل الرجال الذين قابلتهم في حياتها؟ فجميعهم
يعلمون جيدا الفرق بين المرأة والرجل ويخشون العقوبة الدائمة داخل سجن الشلالات..
منذ نشأتها،
تربَّت على أن الرجل في خدمة المرأة، هذا زرع في نفسها شعورا بأن الرجال دورهم الخدمة
والأعمال الشاقة.
إنهم كآلات
بلا مشاعر..
لم تشعر
بحاجتها كامرأة إلى أي رجل كان.. لكن!
«حسام»
رجل مختلف.
بل هو حالة
استثنائية اقتحمت حصونها فجأة وبلا مقدمات..
تجاوز خطوط
الدفاع الأول والثاني والثالث ووصل إلى عقر قلبها..
واحتله
احتلالا!!
رفع رايته
وبنى مستعمراته دون أي مقاومة تُذكر منها..
واتخذ قلبها
عاصمة جديدة له..
وأصبحت
هي الأسيرة..
وعلى أرضها!
وكالعادة
لم تستطِع أن توقف تدفق نهر أفكارها تجاه «حسام» فأراحت رأسها على ظهر مقعدها وغرقت
في نوم يقظة عميق وفي مخيلتها شخص واحد.
* * *
اختارت
الملكة «الصحراء الشرقية» عاصمة لقطاع المملكة كلها (مصر والسودان والنوبة)، التي كان
لا بد لها أن تتحد نتيجة الاستقطاب الحاد بين دول حوض النيل، هذا حين أصبحت المياه
مشكلة حقيقية.
تبلغ مساحتها
تقريبا 22% من مساحة مصر الكلية، وهي تمتد بين وادي النيل
في الغرب والبحر الأحمر وقناة السويس في الشرق. ويفصل وادي النيل ودلتاه بين صحراء
مصر الغربية والشرقية، التي هي أكثر ارتفاعا في المنسوب عن صحراء مصر الغربية؛ حيث
يصل ارتفاع بعض قممها إلى 1500 متر فوق منسوب سطح البحر الأحمر، هذا بالإضافة إلى الكثير من الوديان التي
تكوَّنت نتيجة سقوط الأمطار في عصر عُرف فيما مضى بالعصر المطير، ثم جفت بانتهائه.
كانت الملكة
«أسيلا» تظن أن طبيعة الصحراء الشرقية تجعل منها قاعدة استراتيجية لقيادة البلاد. وكان
من الطبيعي - مع تطور الزمن - البعد عن محيط الدلتا، التي كان يرتكز فيها حوالي 95% من سكان مصر حتى العقد الثاني من الألفية الثانية. وهو توزيع عجيب
جدا - إذا أردت رأيي - حيث يرتكز 95% من السكان
على مساحة لا تتعدى 5% من مساحة
مصر، الأمر الذي أوجب النزوح إلى الصحراء الشرقية والغربية وسيناء حتى يتناسب توزيع
السكان مع مساحة مصر والمملكة بشكل عام توزيعا عادلا.
وضعت الملكة
«أسيلا» نفسها على رأس المملكة، وعيَّنت ابنتها «سارة» أميرة مصر و«تاليا» أميرة السودان
و«سالي» أميرة النوبة واتخذت «عبير» - كبرى بناتها - وزيرة لها.
طبقا لأوامرها
والقوانين الخاصة للمملكة، لا يجوز للرجال حمل بطاقات هوية؛ فهي مخصصة للإناث، وإنما
نصت القوانين على أن تُستخرج لهم تصاريح تحدد أماكن وجودهم، وهي عملية مرهقة لكبر حجم
هذه التصاريح، إلى جانب أنها تجعل الرجال حركتهم مقيدة. بينما اليعاسيب لديهم قوانين
خاصة هي التي تحكمهم.
التقسيم الجنسي الجديد داخل المملكة:
إناث ويعاسيب
وذكور.
يوشم اليعاسيب
بوشم خاص (باركود) على العضد الأيسر، تتم قراءة شفرته بجهاز خاص، وهي عبارة عن: اسمه،
المستعمرة التابع لها، ورقمه الكودي. بينما الذكر يتم وشمه باسمه وسنة الميلاد على
العضد الأيمن.
يتم اختيار
أقوى الرجال وأشدهم وسامة وذكاءً إلى جانب توافر اللياقة البدنية العالية وتُبنى لهم
مستعمرات يتم فيها العناية الخاصة بهم.
عدد مستعمرات
المملكة ستون مستعمرة تُبنى كلها في أشكال سداسية غريبة.. كل مستعمرة لها كود مستقل
من رقم 1 إلى رقم 60. في كل مستعمرة 9999 من اليعاسيب، وجميع الأكواد تبدأ بحرفي الألف والكاف لتصبح على الصورة الآتية:
«أ. ك -
0001 - 1»، وهو كود قائد المستعمرة رقم «1» التي يطلق عليها المستعمرة الأم والتابعة للملكة «أسيلا» مباشرة ويقال
إن بها أفضل العناصر على الإطلاق.
لا أحد
يعلم على وجه الدقة لماذا حرفا الألف والكاف تحديدا!
استراح
البعض لتفسير أن الكاف هو اختصار «كود» والألف أول حرف من اسم الملكة «أسيلا».
الـ«0000» هي أرقام اليعاسيب داخل المستعمرة حسب زمن الدخول، من واحد إلى 9999، وهي سعة المستعمرة من اليعاسيب.
والرقم
الأخير، من واحد إلى ستين، هو رقم المستعمرة من المستعمرات الستين الموزعة في أنحاء
المملكة كالآتي: ثلاثون مستعمرة في مصر، خمس وعشرون مستعمرة في السودان، خمس مستعمرات
في النوبة.
داخل المستعمرات
مدينة كاملة، أو إذا شئنا الدقة عالم كامل مستقل بذاته.. توجد جامعات ومختبرات ومعامل
ونوادٍ لممارسة الرياضة، ليتم اكتمال التكوين العقلي والبدني لليعسوب. يتم اختيار أكفأ
التلاميذ، وهم في عمر السادسة عشرة، من حيث الذكاء والقوة البدنية والوسامة وأي مهارة
مميزة أو موهبة، ليكملوا ما بقي من حياتهم داخل المستعمرة ويكرسوا حياتهم للقطاع الملكي..
لكن قبل هذا هناك مرحلة فاصلة ونقطة تحول..
الوحدة
«ألفا».
الوحدة
«ألفا» هي الميلاد الحقيقي لليعسوب واللحظة الفاصلة التي يتحول فيها من ذكر عادي إلى
يعسوب.. يتم اقتياد الذكر إليها أول شيء بعد أن يقع الاختيار عليه في سن السادسة عشرة.
لا يوجد
يعسوب واحد داخل المستعمرة لم يمر بالوحدة «ألفا» أولا.. الغريب أنهم جميعا لا يتذكرون
سوى اسمها، لكن أي تفاصيل عنها أو ما تم بداخلها فهي مبهمة تماما.
تظل هذه
المجموعة من اليعاسيب الرجال هي الأفضل - على الإطلاق - في كل جيل من حيث «القوة والذكاء
والوسامة». من النادر أن تجتمع العناصر الثلاثة السابقة بهذه الدرجة والدقة العاليتين
في أي رجل آخر خارج حدود المستعمرات.
ففي الخارج
قد تجد الذكي جدا ضعيف البنية، أو الوسيم العليل أو الغبي القوي، ولهذا تتخذ الملكة
وسيدات المجتمع الراقي من هؤلاء اليعاسيب فقط الجيوش والحراس والأخلاء والأزواج.
عمر يعاسيب
المستعمرات ينتهي في الأربعين، بعدها يحالون للتقاعد الإجباري ليقضوا بقية حياتهم في
جزيرة خاصة، يقال إنها عبارة عن منتجع كبير.. دقة هذا الأمر مشكوك فيها؛ فلم يعد أحد
من هناك أبدا ليحكي ما الذي يدور هناك. كل ما يحدث داخل المستعمرات محاط بسرية كاملة
في أثناء خدمة اليعسوب وبعد إحالته للتقاعد.
يقولون
إنه يتم عمل غسيل مخ كامل لليعسوب ليدين للولاء للملكة، لكن هذا أمر غير مؤكد أطلقه
البعض ليفسر سر ولاء اليعاسيب الشديد للملكة، الأمر الذي أنكره البعض بحجة أن هؤلاء
الرجال يحصلون على كل شيء، فلماذا لا يدينون لها بالولاء والطاعة؟! الأمر الذي يرد
عليه أتباع الفريق الأول بأنهم فعلا يحصلون على كل شيء فيما عدا شيء واحد: الحرية،
وهي أغلى وأثمن من كل شيء آخر في الوجود.
لكن في
الحقيقة كلها تكهنات وأقاويل؛ حيث لا أحد يعرف قطعا ما الذي يحدث داخل هذه المستعمرات؛
نظرا لأنها محاطة بسياج محكم من السرية.. والغموض.
* * *
«سيف» شاب
في الثلاثين من عمره.. كان دائما ما يشعر بداخل عقله أنه يدين بالولاء للملكة.. وفي
لحظة..
اختفى هذا
الولاء كله بغتة!
آخر - وكل
- ما يذكره أنه كان في مهمة سرية على حدود أسوان والنوبة و...
وفقط.
ليجد نفسه
بعدها واقفا على الطريق لا يدري أين هو..
ولا كيف
وصل إلى هذه النقطة..
لا يريد
العودة للمستعمرة الأم..
هذا كل
ما يعرفه من داخل قلبه - يقينا - وكأن عقله تحرر فجأة.
هو الآن
داخل عربة الترحيلات في طريقه إلى سجن الشلالات في منطقة «رأس بناس»، وعقله وفكره يأخذانه
إلى ذكريات بعيدة.. جدا.
«سيف» وجد
نفسه داخل المستعمرة الأم التابعة للملكة مباشرة، التي يوجد بها أفضل العناصر على الإطلاق،
منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره.. كان قد أكمل تعليمه الأساسي بتفوق لفت الأنظار
إليه، وحيث إنه من غير المسموح للرجال باستكمال تعليمهم إلى الدرجة الجامعية كان لا
بد أن يواجه مصيرا من اثنين: إما أن يعمل عملا يدويا شاقا في المصانع والمناجم والبناء
وإما أن يخدم في البيوت والفنادق.
بصفة عامة،
أي نوع من الأعمال الدنيا، بما أن الوظائف والمناصب العليا وجامعات التعليم العالي
ووظائف الدولة والعمل السياسي والدبلوماسي كانت حكرا على النساء أو اليعاسيب من الذكور
فقط - طبقا للقانون.
لا يزال
يذكر جيدا ذلك اليوم الذي جاءت فيه مديرة المدرسة يوم التخرج في التعليم الأساسي لتطلب
منه هو وآخرين أن يجتمعوا في فناء المدرسة.. ما زال يذكر كيف أن الجميع كان قلقا والكثير
من التجهيزات وأعمال النظافة وإعادة الدهان التي تمت لتبدو المدرسة في أبهى صورة؛ حيث
علم أن وزيرة الملكة سوف تقوم بجولة لتختار من كل مدرسة يعسوبا..
اصطف الطلاب
المميزون الذين انتقتهم مديرة المدرسة بعناية، وبالطبع وقف «سيف» بينهم.. طال الانتظار
المرهق حوالي ساعتين، حتى ظهرت الوزيرة التي تحيط بها مجموعة لا بأس بها من الحارسات
القويات، كلهن يحملن السياط الإلكترونية ما عدا حارسة واحدة تحمل سوطا مختلفا له لون
أحمر قانٍ.
اضطرب قلب
«سيف» حينما وقع بصره على الوزيرة.
كانت تمشي
في خطوات واثقة متعجرفة، ملامحها قاسية، باردة، تلبس ثيابا مرصعة بالماس والذهب، تشبه
ثياب قدماء المصريين.. بل هي نفسها ثياب قدماء المصريين.. كان «سيف» في إحدى مراحل
دراسته قد وجد صورة للملكة «نفرتيتي» التي بدت له الوزيرة شديدة الشبه بها.. كانت لها
عينان مخيفتان يكاد يجزم أن لهما لونا رماديا.. يحيط بهما كحل أسود شديد السواد.. شفتاها
رفيعتان حازمتان تنظر للطلبة في احتقار شديد.. تحيط بالوزيرة هالة مخيفة تقترب من القدسية،
ما أورد خاطرة سريعة على عقل وقلب «سيف»: «إذا كانت هذه هي الوزيرة، فكيف تبدو الملكة
أسيلا؟!».
في اللحظة
نفسها كانت الوزيرة تجوب وتقطع المسافات بين الطلاب.. تحدق فيهم طويلا.. تقف لتجذب
هذا وتقلِّب في هذا وكأنها تختار سلعة.. كان الأمر يشبه في مجمله سوق النخاسة المهينة،
حتى وقع بصرها على «سيف». وقفت أمامه طويلا تتفرَّسه بنظراتها.. تجوب بعينيها جميع
أجزاء جسده في اقتحام.. تجذب وجهه بخشونة.. تضغط بيديها على كتفه.. تقترب منه لتشم
رائحته.. ظلت تتفحصه ما يقرب من عشر دقائق كاملة.. ثم ابتعدت عنه مسافة مترين وأخذت
تتأمله من جديد..
مرة أخيرة!
ابتسمت
ابتسامة قاسية سريعة ونظرت نظرةً ذات مغزى للحارسة التي تحمل السوط المختلف -
الأحمر القاني بلون الدم - والتي اندفعت سريعا في اتجاه «سيف» وضربت به جسده الذي
انتفض متوقعا ألما شديدا، لكنه وجد نفسه فجأة مكوَّما على الأرض، ملفوفا من أخمص
قدميه حتى رقبته بحبل شديد الليونة والقوة خرج من السوط وظل يلتف حول جسده حتى وصل
إلى قدميه، ما أفقده توازنه ليسقط ويرتطم كالحجر بقسوة بالأرض ثم سرت شحنة عنيفة
كهربية في جسده أفقدته وعيه لساعات طويلة، وحينما أفاق كان عاري الصدر تماما
وعيناه معصوبتان بحبال خشنة التفَّت حول عينيه وجبهته ومؤخرة رأسه في دائرة كاملة..
شعر ببرودة
شديدة وسمع اسم الوحدة «ألفا» يتردد..
بعدها غاب
عن وعيه تماما..
ثم استيقظ..
كانت البداية
صادمة.. ومن لحظتها شعر أن ولاءه فقط للملكة.
ودون سبب
واضح..
قطع أفكاره
توقف سيارة الترحيلات عند سجن مستعمرة «شلالات الدم».
كانت أول
مرة يطأ هذه المستعمرة بقدميه، لكنه سمع عنها كثيرا جدا.. كان يعلم قسوة هذا المكان
جيدا.. هذا ببساطة أحد ابتكارات الملكة «أسيلا» التي تفرض بها سيطرتها وتجعل قوانينها
نافذة.. جعلت عقوبة كسر قوانينها الوضعية التي تميز النساء كجنس أرقى عن الرجال: السجن
في شلالات الدم، وهي عقوبة مختلفة عن القضايا الجنائية..
البقاء
الأبدي في شلالات الدم.. عقوبة قاسية جدا.
من يذهب
إلى هذا المكان يعتبر رجلا ذا شخصية متمردة.
في هذا
السجن البشع يتعرض الرجل إلى أقسى أنواع العذاب والذل والمهانة..
طبيعة العقاب
والإيذاء هنا نفسية وليست بدنية.
لا إيذاء
جسديا على الإطلاق..
وأي محاولة
للهرب عقوبتها واحدة: الإعدام.
هناك أمل
واحد للخروج من هذا الجحيم.. هذا الأمل يتجدد كل خمس سنوات.
من ظن أنه
كان على خطأ فعليه أن يذهب إلى غرفة «إعلان الخضوع»!
غرفة تجلس
فيها الملكة على عرشها ويقف من أمامها السجين مذلولا..
منكسرا..
منسحقا..
يعبِّر
بأقصى آيات الندم معتذرا عمَّا بدر منه ومعلنا خضوعه وولاءه التام للملكة.. هي لا تحتاج
سوى أن تقتنع بأسفه.. عندها تعفو عنه.. وإن عاد لما كان عليه لن يعود إلى السجن بل
إلى حبل المشنقة..
مباشرة.
وإن لم
تقتنع فإنه يبقى خمس سنوات أخرى..
وهكذا..
كانت هذه
هي الطريقة التي تحكم بها الملكة عقول الرجال وتضمن عدم تمردهم.. في الحقيقة كانت فكرة
قاسية، ولقد اكتسب هذا المكان شهرة مخيفة جعلته ينازع أشهر السجون العالمية على مر
التاريخ.
ما إن وطئت
قدما «سيف» الأرض حتى شعر بدهشة حقيقية.. فتحت قدميه مباشرة اصطبغت الأرض بلون الدم..
عرف على أثرها لماذا يطلق على هذا المكان اسم «شلالات الدم»..
فأمام عينيه
كانت هناك طبقات رملية كثيفة تنحدر بميل للأسفل على شكل شبه منحرف قاعدته سجن على هيئة
قلعة عظيمة. انحدار الطبقات الرملية يشبه تماما بركانا مقلوبا فوهته للأسفل. تلك الرمال
- التي في انحدارها تشبه النهر - مكونة من خمس طبقات رملية تنساب ببطء شديد.. الميل
الرملي كان عميقا بحق لمسافة تمتد لأكثر من 100 متر. وهذا اللون الأحمر ينحدر من جميع الجوانب وكأنه يصب حمما من الدماء
على السجن.
شلالات
الدم تكونت بسبب المادة الناتجة من مادة أكسيد الحديد الغنية بها التربة في هذه المنطقة،
ما أعطاها هذا اللون الأحمر الذي يُعزى إلى أكسيد الحديد الناتج من جرَّاء تفاعلات
أكسدة بين عناصر معينة موجودة في المياه الجوفية شديدة الملوحة بالمنطقة. وكانت هذه
العناصر مخزنة ومعزولة في جيوب ينعدم فيها الهواء والضوء منذ سنين طويلة، حين كانت
المياه أعلى من مستوياتها التي هي عليها حاليًّا..
هذه المعلومات
كلها استرجعها «سيف» في ذهنه وهو يخطو أولى خطواته على شلالات الدم.
كانت الشمس
قد أنهت لتوها رحلة غروبها.. فتلونت السماء بلون أحمر، ما جعل المشهد كابوسيا مقبضا..
الأرض والسماء
بلون واحد..
أحمر.
الرياح
باردة، لها صوت صفير عالٍ، محملة بذرات الرمال الحمراء المدببة والقاسية لتصطدم بالأجساد
البشرية القليلة الواقفة على بعد حوالي 200 متر من مدخل السجن منتظرين - في ملل واضح - الإذن بالدخول.
سمع «سيف»
عواء ذئاب مع بداية الليل واختفاء الشمس الكامل في الأفق البعيد، بينما تقف من حوله
أربع حارسات يحملن السياط الإلكترونية ويُحِطنَ به من الجهات الأربع في تشكيل بدائي
لكنه محكم....أطرافه الأربعة مغلولة بسلاسل قاسية تبدأ عند قدميه ويديه، وتنتهي
عند يد إحدى الحارسات. و تتدلى من رقبته أغلال ثقيلة مرهقة تكاد الكلابشات التي في
نهايتها حول رقبته تخنقه خنقا.. طول هذه السلسة حوالي ثلاثة أمتار،تتدلى حرة أمام
عينيه ...
ابتسم «سيف»
في سخرية وقال مشيرا بعينيه إلى نهاية السلسلة التي تحكم نفسها حول رقبته:
- أين الحارسة
الخامسة؟
لم يكد
يتم عبارته حتى ظهر كلب شرس قوقازي أسود قوي وزنه لا يقل عن 100 كيلوجرام.. ذلك النوع الذي يمتاز بطباعه الخشنة وصعوبة ترويضه نتيجة صراعاته
الطويلة مع الذئاب..
لم يدرِ
«سيف» من أين ظهر، لكنه كان يركض بقوة ويندفع في قسوة وشراسة باتجاهه، ما جعل أعصابه
تتوتر وجسده يتحفز، مفرزا «أدرينالين» طازجا، ظنًّا منه أن هذا الكلب في طريقه ليهجم
عليه. وقف الكلب عند قدميه مباشرة وأخذ في الدوران من حوله يتشممه في بطء ثم قام بفعل
عجيب بحق..
التقط طرف
السلسلة الخامسة المعلقة في رقبة «سيف» في فمه موليا له ظهره محركا ذيله في سعادة بدت
لـ«سيف» وكأنه يشمت فيه، ولولا بُعد نهاية السلسلة بثلاثة أمتار كاملة عن قدم «سيف»
لكان ركله ركلة قاسية بتلك المؤخرة التي فوقها ذيل يهتز.
كان المشهد
مهينا بحق..
رجل مسلسل
من أطرافه، ومن رقبته يقوده كلب!!
سمع «سيف»
صوت أزيز يقترب منه أتبعه ظهور حشرة بحجم البعوضة تقترب منه حثيثا ثم استقرت على ملتقى
رقبته بكتفه..
شعر «سيف»
بأنها غرزت شيئا دقيقا حادا في رقبته فحاول لا إراديا أن يزيله فتذكر أنه مقيد اليدين،
فقالت الحارسة من على يمينه:
- هذه الحشرة
الإلكترونية يتم التحكم بها عن بُعد.. هل شعرت بهذه الوخزة؟ لقد أخذت عينة من الـDNA الخاص بك وأرسلته حالا إلى سيرفر السجن؛ حيث تم إدراجك في قاعدة البيانات..
ثم رفعت
جهاز اتصال إلى فمها قائلة للطرف الآخر:
- المجموعة
«ب» تقف في الدائرة الحمراء.. نحن في انتظار الأوامر.. متى نستطيع الدخول من البوابة
5؟
- سوف يصل
الممر في ثلاث دقائق وعشر ثوانٍ.
وقفت المجموعة
العجيبة المكونة من أربع سيدات ورجل وكلب وبعوضة داخل الدائرة الحمراء وسط الصحراء
في مشهد غريب عجيب بانتظار مرور الدقائق الثلاث..
مرت الدقائق
الثلاث في صمت مهيب لم يقطعه سوى صفير الرياح وعواء الذئاب، حتى شعر «سيف» وباقي المجموعة
بتحرك ذرات الرمال من تحت أقدامهم ووجد قدمه تقف على سير يتحرك بسرعة معقولة نسبيا
للأسفل باتجاه بوابة الدخول رقم خمسة. لم يفهم بالتحديد ما الذي يحدث من حوله ولماذا
لم تتحرك المجموعة سيرا على الأقدام وما هذا السير الإلكتروني المتحرك..
ابتسمت
الحارسة وقد خمَّنت ما يدور داخل عقل «سيف» ثم قالت وكأنها تستمتع بهز ثقة السجين:
- هذه الرمال
الحمراء المحيطة بالسجن هي رمال متحركة.. وهذا السير الكهربائي مصنوع من مادة خاصة
تجعله قابلا للطفو على هذه الرمال.. باختصار: لا يستطيع أحد الهروب من تلك القلعة الحصينة.
لم يُعِرها
«سيف» أدنى اهتمام..
كانت الفكرة
الوحيدة المسيطرة على عقله هي كيفية الهروب من هذا الجحيم على الرغم من أن الممارسات
الوحشية والقمعية في هذا السجن لم تبدأ بعدُ..
هو يقترب
من بوابة السجن بأغلال وبعوضة إلكترونية مقززة تصحبه وكلب شرس يقوده. لا يدري بعدُ
ما الذي ينتظره بالداخل.. لكن الأحداث التي مر بها حتى هذه اللحظة كفيلة بجعله يؤمن
أن الأيام المقبلة ستكون كريهة إن لم تكن أسوأ أيامه على الإطلاق.
بوصول أفكاره
إلى هذا المنحنى، شعر بغثيان شديد وتقلصت أمعاؤه، ثم قام بحركة لا إرادية أفرغ معها
محتويات معدته عن آخرها..
ما جعله
يستشعر ألما بالغا في معدته..
ازداد كرهه
للملكة وقناعاته بأنها شيطان يكره الرجال..
من المستحيل
أن تكون هذه امرأة طبيعية.
بُني السجن
- أو القلعة - في شبه جزيرة «رأس بناس» التي تحدها المياه من جهات ثلاث.. وهذا هو سر
بناء تلك القلعة الحصينة في ذلك المكان؛ حيث يشكل البحر الأحمر عنصر حماية طبيعيا.
وتبقى جهة واحدة من اليابس تستطيع بسهولة تركيز الحراسة عليها. المنطقة البحرية المحيطة
بالسجن مليئة أيضا بأسماك القرش المفترسة.
يمتد بناء
السجن على مسافة 180 مترا طولا و60 مترا عرضا. سُمك الأسمنت المسلح في الجدران والحوائط الفاصلة يقارب نصف
المتر. القضبان الفولاذية المضادة للقطع تغطي جوانب جميع النوافذ والفتحات. الأبواب
جميعها مصفحة تحول بين كل مدخل ومخرج للسجن.
ينقسم السجن
إلى ست مجموعات متوازية من الزنازين المتلاصقة التي يطلق عليها «بلوك».. تم تخصيص البلوك
رقم ثلاثة تحديدا لعقاب من يخالف النظام داخل سجن شلالات الدم أو يتطاول على الحارسات.
أقفال السجن
جميعها مصممة بطريقة تجعلها تزداد عصيانا كلما حاولت فتحها بقوة أو بمفتاح إلكتروني
لا يحمل الشفرة الصحيحة من المحاولة الأولى..
النسبة
بين عدد الحارسات إلى المساجين 2 : 1، كل مسجون
عليه حارستان، هذا بالإضافة إلى 100 حارسة في الفناء الخارجي و8 أبراج مراقبة ودوريتي حراسة تتبدل كل ثماني ساعات لضمان اليقظة الكاملة
للحارسات.
كل شيء
في هذا السجن مصمم لكسر إرادة المتمردين.. زنازين باردة جرداء مصممة من الخرسانات والفولاذ
وعليها حارسات يحملن أسلحة متقدمة، داخل أسوار منيعة عالية أعلى قمتها أسلاك مكهربة..
وإن نجح
الرجل المتمرد في الهرب من هذا الجحيم عليه مواجهة الرمال الحمراء المتحركة أو الذئاب
الجائعة من خلفه أو البحر بأسماك القرش المفترسة.
باختصار:
أرادت الملكة «أسيلا» زرع اليأس في القلوب وسحق فكرة الهرب تماما من عقول المتمردين
من الرجال..
أن تجعل
مجرد التفكير في الهرب فكرة مستحيلة..
والعجيب
أن هذه هي الفكرة ذاتها التي سيطرت على «سيف» ما إن وطئت قدماه أرض شلالات الدم البشعة..
الهرب.